نقد النقد
(النقد ونقد النقد)

المحاضرة 07:        النقـد ونقــد النقــد

عرف النقد مفاهيم متعددة نتيجة تطور العصور واختلافها، لكننا سنقف عند التعريفات الحديثة التي قدمها النقاد الغرب فمثلا يربطه تودروف بالحوار، "لأنه لقاء صوتين صوت الكاتب وصوت الناقد، وليس لأي منهما امتياز على الآخر" ، ويرى بأن النقاد الذين يتوجهون باتجاهات مختلفة (الدوغماتية، الانطباعية، الذاتية، التاريخية...) يرفضون هذا الحوار وينادون بصوت واحد هو صوت الكاتب المسموع فقط، ما يجعل "هذا الامتناع عن الحوار مع المؤلفات وبالتالي عن الحكم على حقيقتها يبتر أحد أبعادها الأساسية الذي هو تحديدا: قول الحقيقة" ؛ بمعنى أن النقد يقوم على ثنائيتين متلازمتين لا يمكن التخلي عن أحدهما نتيجة الحوار الذي يكون بينهما، بين صوت الكاتب في عمله الإبداعي وصوت الناقد أثناء قراءته ونقده له، ومن خلال محاورة النص الأدبي يكشف الناقد عن الحقيقة التي عجز النص عن قولها. يحاول النقد الأدبي أن يستفيد من جميع العلوم والمعارف، ليغدو خطابا علميا يحتكم إلى قواعد منهجية وأسس علمية أثناء مقاربته للنصوص الإبداعية، وهذا ما نستشفه من قول يمنى العيد: "أن يصير النقد علما يستفيد من البحث من النشاط الفكري، ومن انجازاته في كل الميادين التي تعينه في عمله على النص" ، حيث نجده يوظف مصطلحات خاصة بالمجالات العلمية: كعلم الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات، البيولوجيا وغيرها، وأخرى خاصة بالعلوم الإنسانية، كالفلسفة، المنطق، التاريخ، الأنثروبولوجيا وغيرها. كما أن التطور الكبير الذي شهدته العلوم في مختلف مجالاتها، مس النقد الأدبي أيضا لأنه حاول الانفتاح عليها لتحقق له قدر الإمكان من العلمية نظريا وإجرائيا، فهو ليس علما ولكنه يطمح لأن يكون كذلك وهذا ما ذهب إليه عبد السلام المسدي حين قال:"إن النقد معرفة ويطمح أن يكون علما، لكنه علم بغيره، وليس علم بنفسه، والسبب أن موضوعه الذي هو القول الأدبي ليس معطى جاهزا من معطيات الطبيعة وليس واقعة عارضة من واقعات الوجود، وإنما هو بنفسه شاهد على فعل إبداعي يؤلفه الإنسان، ولكن للنقد خصيصة تميزه عن سائر المعارف، ذلك أن النقد يتمتع بصلاحية الاختراق شأنه شأن العلم اللغوي، فكلاهما قادر على أن يلج إلى كل العلوم الأخرى، من خلال التأمل في بنية خطاباتها" . يعد مصطلح نقـد النقـد من المصطلحات الشائكة والشائعة في الخطاب النقدي العربي المعاصر لما يعتريه من غموض وتعقيد بسبب اجتماع كلمتين هما في الأصل كلمة واحدة (النقد)، لأن هذا الأخير في حد ذاته عرف العديد من المفاهيم المختلفة نتيجة تطوره عبر العصور، "فبقي متأرجحا بين أزمنة نقدية عدة: قديمة يستدعيها المفهوم العام لكلمة النقد وحديثة يقيدها الاستعمال المعاصر المعزز بالدرس الإبستيمولوجي" . لكن بالرغم من ذلك سنحاول الوقوف عند بعض المفاهيم التي أوردها بعض النقاد سواء عند الغرب أو العرب لضبط مفهوم هذا المصطلح، فمثلا يعرفه تزفيتان تودروف بأنه "نوع من النقد الحواري الذي يجمع بين منهجين ملتحمين هما: المنهج النقدي المؤسس على الملاحظة والمقاربة والاستقراء وإدراك العلائق والمنهج المؤسس على الجدلية" ؛ بمعنى لابد من امتلاك ناقـد النقـد منهجين أساسين في ممارسته للعملية النقدية، حيث يتمثل المنهج الأول في النقد الأدبي المبني على الاستقراء والملاحظة والمقارنة أثناء مقاربته للنص الإبداعي، في حين يتجلى المنهج الثاني في المحاورة النقدية للعملية الاستقرائية التي قام بها الناقد الأول، كما أن فكرة الحوار هذه قد تأثر بها محمود أمين العالم لكن بصياغة أخرى، حين نظر إلى نقد النقد على أنه "تجربة نقدية شاقة وبالغة الصعوبة وصعوباتها تأتي من كونها لا تعتمد على نصوص إبداعية ذات فضاءات تعبيرية مباشرة أو غير مباشرة، وإنما تقوم على حوار مفتوح مع نظريات ووجهات نظر وثيقة الصلة بالأثر الأدبي وفيها رؤى نقدية موضوعية متماسكة تستند إلى قيم ومعايير ذات مرجعيات وأخرى رؤى خارجية وبعيدة عن كل مرجعية" ؛ هذا يعني أن الناقد جعل، هو الآخر، نقد النقد نوعا من الحوار، من خلال محاورته للنص النقدي بكل ما يحمله من رؤى ووجهات نظر نقدية ذات صلة بالعمل الأدبي تحتكم إلى مرجعيات أو ربما ليس لها مرجعية وهنا تكمن صعوبته. يتخذ خطاب نقد النقد من النقد موضوعا للدراسة، بمعنى أن المدونة التي يشتغل عليها هذا الخطاب هو النقد بنوعيه ( النص الإبداعي، والنص النقدي) بهدف فحص الممارسة النقدية وتقييمها وتصحيحها، لأن نقد النقد كما يقول جابر عصفور هو "قول يراجع قولا للتأكد من صحة عمل الجهاز النقدي وللتأكد من سلامة توصيل الموضوع"، فغاية هذا الخطاب هو مناقشة الأسس النظرية للمناهج النقدية الحداثية من جهة ومراجعتها وتعديلها من جهة أخرى على هذا الأساس يعرف أيضا جابر عصفور هذا الخطاب بقوله هو "نشاط معرفي ينصرف إلى مراجعة الأقوال النقدية، كاشفا سلامة مبادئها النظرية وأدواتها التحليلية وإجراءاتها التفسيرية (...) أو لغة أخرى أن يكون ابستمولوجيا نوعية خاصة بالنقد "، وسنوضح الآليات الإجرائية التي يتخذها ناقد النقد في قراءة المؤلفات والنصوص النقدية، لتوضيح الاختلاف بينه وبين النقد.