المدارس اللسانية
(المدرسة التوزيعية )

- المدرسة التوزيعية (distribution) :

تدعى هذه المدرسة أيضا (المدرسة السلوكية). ومن أهم أعلامها المؤسسين ليونارد بلومفيلد (Leonard Bloomfield). اتصل بلومفيلد بالمذهب السلوكي في علم النفس الذي كان سائدا في أمريكا، مما كان له أثر كبير في تكوين نظريته. وأهم أفكار السلوكية أن الفروق بين البشر محكومة بالبيئة التي يعيشون فيها، وأن أي سلوك هو رد فعل، أي أنه يحدث بوصفه استجابة لمثير خارجي خاص، وهو يكشف عن نفسية الإنسان، ويشمل تواصله مع بيئته، أي اللغة. ومن ثم فاللغة سلوك كغيرها من سلوكات الإنسان، تقوم على العلاقة بين المثير والاستجابة، فهي شكل من أشكال الاستجابة لمثير خارجي

أطلق بلومفيلد على المنهج الذي اتبعه في دراسة اللغة اسم المنهج المادي أو الآلي، وهو منهج يفسر السلوك البشري في حدود المثير والاستجابة على غرار ما تقوم به الدراسات النفسية، وقد استعان في شرح منهجه هذا بقصته المشهورة عن (جاك) و(جيل). افترض بلومفيد أن جاك وجيل كانا يتنزهان في الحديقة بين صفوف الأشجار، شعرت(جيل) بالجوع، وتولدت لديها رغبة في الأكل، رأت تفاحة على الشجرة، فأصدرت أصواتا عبرت من خلالها عن هذا الجوع، فقفز (جاك) على إثر هذه الأصوات، ليتسلق الشجرة، ويقطف التفاحة، ليقدمها إلى(جيل) التي اشتكت من الجوع أو عبرت عنه، و بعد ذلك يضع التفاحة في يدها، وتأكلها هانئة البال. إن في هذه القصة مجموعة من الجوانب التي تثير اهتمام الدارسين، إذ يهتم الباحث اللغوي هنا بالحدث الكلامي، والتصرف السلوكي الذي ترتب عليه، لأن اللغة في نظره سلسلة من الاستجابات الكلامية لحوافز ليست ميدان الباحث اللغوي، فهو لا يهتم بالعمليات النفسية (الحافز الداخلي) السابقة على عملية الكلام، وإصدار الإشارات الصوتية، بل بدراسة التصرف الكلامي، فيصف ما فيه من فونيمات ومورفيمات توزع في إطار جملي. و قد قام بلومفيد بتحليل هذه القصة كما يلي:     1-أحداث عملية سابقة الحدث الكلامي. 2-الحدث الكلامي. 3-أحداث عملية تابعة للحدث الكلامي.

واتخذ بلومفيلد في دراسة اللغة موقفا مناظرا لموقف السلوكيين، من حيث الفحص الموضوعي المنضبط للسوك اللغوي. ولأن الجانب الفيزيائي من اللغة (الصوتي) هو الأكثر ملائمة للفحص الموضوعي المنضبط فقد ركز اهتمامه البحثي كلية على هذا الموضوع، أي ارتكز على وصف سلوك الوحدات اللغوية الملموسة في سلسلة الكلام. وعلى هذا الأساس رأى بلومفيلد أن المنهج اللغوي لا بد أن يعالج جميع المواقع التي يمكن أن تحتلها الوحدات اللغوية في نظام لغة معينة معالجة مبنية على الملاحظة والوصف، أي على تحديد توزيع الوحدات اللغوية، فاعتمد، لذلك، منهج التوزيعية الذي أرسى دعائمه العالم الأمريكي سابير. ونتج عن ذلك أن انصب اهتمام بلومفيلد (ومن تبعه) على الوحدات الصرفية والنحوية لأنها قابلة للملاحظة والوصف على نحو علمي موضوعي دقيق، واستبعد المعنى من الدرس اللغوي لعدم قابليته للوصف الموضوعي.

استنتاجات في النظرية والمنهج:

1- رأى التوزيعيون إلى اللغة بوصفها (نظاما من العلامات) على ما أسس له دي سوسير. ويتحقق هذا النظام في الكلام بوصفه سلوكا لغويا. ولكشف البنية اللغوية على نحو موضوعي دقيق ومنضبط لا بد من دراسة السلوك اللغوي على نحو ما يدرس عالم النفس سلوك الإنسان للكشف نفسيته.

2- استخدم المنهج التوزيعي لكشف بنية اللغة. وجرى على المستويين الصرفي والنحوي، واستبعاد دراسة المعنى. فالعناصر تتحدد بعلاقاتها داخل النظام، أي بعلاقاتها مع غيرها من العناصر اللغوية في التركيب الواحد، وعملية التوزيع السليم الذي تأخذ فيه الكلمة قيمتها وبالتالي علاقات منطقية ولغوية مع بعضها البعض هي التي تصل بنا في النهاية إلى التركيب السليم، ومن هنا جاء اسم النظرية التوزيعية[9]، ولتوضيح ذلك نضرب المثال الآتي.

تتوزع الجمل في العربية وفق أحد النظامين (في الغالب الأعم):

الجمل الاسمية: التي يتصدرها اسم (مسند إليه + مسند)               الجمل الفعلية: التي يتصدرها فعل (مسند + مسند إليه)

وقد يخالف مستعمل اللغة أحد التركيبين إلى تركيب جديد بالزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير… دون أن يخالف نظام اللغة، فيوزع مفرداته توزيعا سليما، وفق قانون لغوي يخضع له للتعبير عن فكرة ما، لكننا قد نكون بإزاء متكلم جاهل بقواعد اللغة، فيوزع ما في ذهنه من مفردات توزيعا مختلا، به يختل المعنى، كأن يقول: نضع الصحن في الطعام، وهو يريد: نضع الطعام في الصحن، فيربط بين الوحدة اللغوية التي تريد فعلا وبين التي تأتي رابطا (حرف الجر)، عوض أن يربط هذه الأخيرة بكلمة (الصحن) ليدل على المكان (الموضع) الذي يوضع فيه الطعام .

3- يقوم هذا المنهج على اختبارات الإحلال في تحديد توزيع الوحدات اللغوية، وذلك بإحلال الوحدة اللغوية موضع الفحص محل وحدة لغوية أخرى في سياق معروف، فإذا أمكن لهذا الإحلال أن يتم دون حدوث تغيير في السياق، فإن الوحدتين تنتميان إلى فئة واحدة، أي لهما خصائص صرفية ونحوية واحدة. (مثال: هذا الشخص خيب أملي/ يمكن أن نحل مكانها (البرنامج)/ هذا البرنامج خيب أملي/ وبما أن السياق لم يتغير فإن الوحدتين (الشخص، البرنامج) تنتميان إلى فئة واحدة هي فئة الأسماء)

4- صاغ بلومفيلد وجوه التمييز الأساسية في الوحدات الصرفية (سيستكمل هذا الموضوع في مجاله/ المستوى الصرفي.

5- انتقدت هذه المدرسة بشدة لاستبعادها المعنى، ولاعتمادها طريقة آلية في الدرس اللغوي، ومع ذلك حققت نتائج باهرة في تجهيز اللغة للترجمة الآلية.