مقياس نقد قديم
(نقد قديم تطبيقات )

تطبيق: السرقات الأدبية

    تعد قضية السرقات من أكبر وأصعب المسائل النقدية التي شغلت فكر أصحاب المصنفات النقدية  وعلى رأسهم  صاحبي الموازنة والوساطة، المصنفين اللذين تأسس بها النقد المنهجي عند العرب على حد قول محمد مندور :«...حتى إذا ظهر مذهب البديع ووضح لابن معتز خصائصه، قامت المعركة حوله، وقد انقسم العلماء و الأدباء فريقين: فريق، يتعصب له وفريق يتعصب ضده، مما مهد السبيل للنقد المنهجي الذي عثرنا به في الموازنة، ثم ظهر المتنبي و شغل الناس فقامت عاصفة أخرى انتهت(بالوساطة) و هاتان الحركتان هما الوحيدتان في تاريخ الأدب العربي، و بفضلهما تكون النقد»([1]).فالجرجاني  تعليقا و تحليلا لغويا على بيت لبيد الذي يقول فيه:([2])

«وكل أناس سوف تدخل بينهم ***  دويهية تصفر منها الأنامل»

و على بيت المتنبي الذي يقول فيه:([3])

«أحاد أم سداد في أحاد *** لييلتنا المنوطــة  بالتناد»

   فيقول: «أما تصغير اللفظ على تكثير المعنى فغير منكر، و هو كثير في كلام العرب (...)  و إنما وجه القول في هذا أن من التصغير ما يكون جاريا على طريق الاستهانة و التحقير، و منه ما يراد به الصغر و اللطافة(...) و ذكر لبيد الدويهية على لفظ التصغير من باب اللطافة دون النكاية فقول أبي الطيب: لييلتنا خارج مخرج الذم والهجو، ثم قد أزال الالتباس و أفصح عن المراد بقوله المنوطة بالتناد، إذ قد بين أنه لم يرد قصر مدتها»([4]).و نجد الآمدي يقف أمام  سرقات الشعراء محللا ومعلقا واقفا موقف الحاذق المتفهم  يأتي ذلك في وقوفه على سرقات الطائيين من مثل رده على أبي ضياء في اتهامه البحتري بسرقة بيت أبي تمام حين قال الأول:

متحير يغدو بعزم قائم ***   في كل نائبة و جد قاعد»

وبيت أبو تمام قوله:

همة تنطح النجوم و جد ***  آلف للحضيض فهو حضيض

فقال الآمدي: «و هذان المعنيان جنسهما واحد، و لفظهما مختلف، و هما شائعان في الكلام و جاريان على الأمثال، يقال: فلان عالي الهمة، و همته في الثرايا و حاله في الحضيض، و فلان يسامي بهمته النجم و لكن قد قعد به حظه، و نحو هذا من اللفظ؛ فليس يجوز أن يعتور هذا المعنى شاعران فيقال: إن أحدهما أخذ من الآخر»([5]).

و أمثلة ذلك كثيرة في نقدنا العربي القديم؛ و أكثرها ما جاء به الآمدي الذي رد على أبي ضياء في اتهامه البحتري في البيت الذي يقول فيه ([6])

«متحير يغدو بعزم قائم ***   في كل نائبة و جد قاعد»

بسرقة قول أبي تمام([7]):

«همة تنطح النجوم و جد ***  آلف للحضيض فهو حضيض»

فيعلق الآمدي بقوله: «و هذان المعنيان جنسهما واحد، و لفظهما مختلف، و هما شائعان في الكلام و جاريان على الأمثال، يقال: فلان عالي الهمة، و همته في الثرايا و حاله في الحضيض، و فلان يسامي بهمته النجم و لكن قد قعد به حظه، و نحو هذا من اللفظ؛ فليس يجوز أن يعتور هذا المعنى شاعران فيقال: إن أحدهما أخذ من الآخر»([8]).

       و مثال ذلك-أيضا- ما نجده عند بن الأثير في مثله السائر؛ حين يستقصي و يحقق في إحدى سرقات المتنبي، و عكسه معنى بيتا لأبي الشيص الذي يقول:

«أجد الملامة في هواك لذيذة ***  شغفا بذكرك، فليلمني اللوم

حيث عكسه المتنبي و قال:

       أأحبه و أحب في ملامــة ***  إن الملامة فيه من أعدائـه»([9])

   يقول بن الأثير بعد أن استقصى و حقق في السرقة:«و هذا من السرقات الخفية جدا، ولأن يسمى ابتداعا أولى من أن يسمى سرقة»([10])

   أما عند المغاربة فنأخذ "ابن رشيق" فقد شغله موضوع السرقة في مصنفيه "العمدة" و"القراضة" ؛ فحاول في مصنفه الأول إعطاء مفاهيم ينظر فيها للسرقات الأدبية ويفصل بالقول بين ما اعتبرها سرقة حقيقية وما اعتبرها معاني متداولة ، وغير ذلك من أنواع السرقات والأخذ . ومضى في مصنفه الثاني إلى بيان مآخذ الأدباء فيه،  يقول ابن رشيق في مفهوم السرقة :«قالوا السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد في أخذه على أن من الناس من بعد ذهنه إلا من مثل بيت إمرئ القيس وطرفه حين لم يختلفا إلا في القافية،فقال أحدهما "وتحمل"، وقال الآخر "وتجلد" ومنهم من يحتاج إلى دليل من اللفظ مع المعنى،ويكون الغامض عندهم منزلة الظاهر، وهم قليل»([11]) ومن أنواع السرقات التي ذكرها ابن رشيق نجد:

   المواردة من توارد الخواطر يقول ابن رشيق:"فإن صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر ـ وكانا في عصر واحد ـ فتلك المواردة "([12]) وأما سوء الإتباع فهو تأليف البيت الشعري من أبيات أخرى لغير مبدعه([13])؛ أي أن يأتي الشاعر إلى معنى اخترعه غيره وسبقه إليه ثم يبني عليه بيته مع إظهاره للسرقة([14] ) يقول عن ابن سفيان : "من شعره

وجرد غرابيب ومرد غطارف   *  وسمر سلاهيب وشيب أكـــارم

تحــب بـه يوم اللقاء كأنها * زعازع ريـح زمهن الشــكائـم

بمعترك ضاق الفضا في مقامه * من الطعن والأرض العريضة خاتـم

(…) فهذا كلام منتقى ليس فوقه مرتقى، تبع فيه أو وارد ، وما زال الناس على هذا غير أن الحاذق من باعد "([15]) .

تطبيق: المؤثرات الأجنبية في النقد العربي:

    تعد قضية التأثير الأجنبي في النقد العربي عموما و اليوناني خصوصا من كبرى القضايا التي طرحها الكثير من النقاد والمهتمين بالنقد و الأدب العربي قديما و حديثا ، ويتجل جوهر القضية في القول أن النقد العربي القديم تأثر و استمد الكثير من أصوله من النقد  و الفكر الفلسفي اليوناني، وخاصة من خلال كتابي أرسطو" الخطابة" و" الشعر" بعد نقلهما إلى العربية،وقد تفاوتت مواقف الباحثين و النقاد العرب القدامى و المحدثين حول التأثير اليوناني في النقد العربي.  بين اتجاه مؤيد كطه حسين ،محمد غنيمي هلال وشكري عياد...  وغيرهم ،حين تتبّعوا أثر النقد اليوناني القديم في النقد الأدبي العربي مركزين على الفلاسفة المسلمين، منهم الفارابي وعلاقته بالفلسفة اليونانية....و اتجاه معارض كمحمد مندور و" طه أحمد إبراهيم  وغيرهما حين أكدوا أن النقد العربي القديم نشأ نشأة عربية صرفة. ويمكن أن نخلص إلى حدود التأثير اليوناني في النقد العربي من خلال النقاط الآتية:

-النقد العربي في القرنيين الأول و الثاني كان عربيا خالصا مرتبطا بالذوق الشخصي للعربي.

- تأثر العرب بالنقد اليوناني في القرن الثالث الهجري بفعل التثاقف الحضاري من خلال حركة الترجمة في العهد العباسي.

-يظهر الأثر الأرسطي عند الفلاسفة المسلمين في قضية الخيال والمحاكاة في النقد العربي.

- يعتبر الجاحظ أول محطة تصادف الباحثين في مسألة التأثير اليوناني في الثقافة العربية فقد ألف كتاب "الحيوان" كما ألف أرسطو كتاب الحيوان.و كتاب "البرهان في وجوه البلاغة" لابن وهب الذي برع في نقل بعض الآراء اليونانية في الشعر و الخطابة و استطاع أن يوفق في تعريب الأفكار ودعمها بالخصوصية العربية..

- بدايات التأثر كانت مع" قدامة بن جعفر" حين استعان بالثقافة اليونانية في تأليف كتابه "نقد الشعر و الآمدي.

- الظهور البارز للأثر اليوناني على المستوى النقدي و البلاغي في القرنيين الهجريين السابع و الثامن مع  المدرسة المغربية  التي مثلها حازم في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" و "أبو القاسم السجلماسي" في "المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع" و" ابن البناء المراكشي" في كتابه "الروض المريع في صناعة البديع...وعلى الطلبة مراجعة كتاب حازم القرطاجني للمزيد من المعلومات حول الأثر الأجنبي في النقد العربي الذي يعد نموذجا متكاملا لهذا الأثر.

-منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني ت(684 هـ)

  هذا الكتاب يمزج بين البلاغة والنقد، وقد حققه التونسي محمد الحبيب بن الخوجة، وهو في أربعة أقسام ضاع الأول منها تماما، ولكن الأقسام المتبقية تظم فكرا نقدية لامعة ويترائ فيها حازم ناقدا ألمعيا قليل النظير.([16])

القسم الثاني يتناول المعاني الشعرية والقسم الثاني يتناول النظم والقوانين البلاغية، أما القسم الرابع فموضوعه الطرق الشعرية والمنهاج يتوفر على مادة نقدية وبلاغية غزيرة قلما تعثر عليها في كتاب نقدي أو بلاغي آخر([17])، والفكر النقدية الموجودة في الكتاب يمكن ذكرها فيما يلي: المعاني الشعرية، غموضها، تخييل الأغراض بالأوزان التخييل والمحاكاة. ويعتبر الدكتور إحسان عباس أن كتاب المنهاج هو آخر صلة بين كتاب أرسطو والنقد العربي.

نموذج:تأثير مصطلح "المحاكاة الأرسطي على نظرية المحكاة عند حازم القرطاجي:

      أتى "القرطاجني" بنظرات ثاقبة، وملاحظات بارعة حول نظرية المحاكاة التي أخذ أصولها عن ابن سينا، وفي هذا يقول: "وقد ذكرت في هذا الكتاب -منهاج البلغاء وسراج الأدباء -من تفاصيل هذه الصنعة، ما أرجو انه من جملة ما أشار إليه أبو علي ابن سينا" ([18]).وكان لتأثير مصطلح "المحاكاة" الأرسطي على حازم القرطاجي واضحا.يقول عصام قصبجي":"وكان حازم مزهوا بهذه المحاكاة، فقد أفاض فيها، وأقام عليها منهاجه ونسي أن يحدثنا عن الفارق الجوهري بينها وبين محاكاة أرسطو على نحو يغني النقد العربي بنظرة جديدة، ولعل ذلك يرجع إلى أنه لم يقرأ أرسطو من خلال كتابـه، وإنما قرأه من خلال الفارابي وابن سينا( [19]). لم يخرج "حازم "عن نطاق فهم المحاكاة بأنها التشبيه فهو يجعل "المحاكاة تشبيه والمحاكيات تشبيهات فكأن التشبيه هو الفلك الّذي تدور فيه معاني النقد جميعها" ( [20]).   

   وكان انطلاقه من الشعر الذي يرى أن مستنده المحاكاة و التخييل. قائلا: "الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها"([21]).

-تطبيق أثر المعتزلة في النقد الأدبي:

أ‌-    رأي الجاحظ:

عرض صاحب "الحيوان" بين طيات كتابه قضية نحل الشعر مستكملا منهج صاحب " طبقات فحول الشعراء" في البحث بين صحيح الشعر ومنحوله سائرا على نهجه في التحري عن ذلك ويضيف إلى أدلة ابن سلام الخارجة عن النص وسيلة تبحث في النص ذاته عن طريق الاستقراء والتحليل ونموذج ذلك قوله يروي: " قول الأفوه الأودي:

كشهاب القذف يرويكم به*فارسٌ في كفّه كالحرب نارُ

...وبعد، فمن أين علم الأفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي، ولم يدّع هذا أحد قط إلا المسلمون"([22])، لجأ الجاحظ إلى تحليل البيت بناء على معطيات سياقية سابقة وهي أن الشهب أول ما وردت بهذا المعنى - أي رجم للشياطين- في القرآن الكريم

فلم يعلم الجاهليون بذلك من قبل؛ يقول المولى عز وجل في سورة الملك : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) " ([23])ومن هذا التحليل توصل الجاحظ إلى أن البيت منحول.

    راي عبد القاهر الجرجاني وعاب الذين يقدمون الشعر لمعناه أو للفظه، و أنكر تلك الثنائية، ودعا ـ في الوقت نفسه ـ الناقد العربي إلى أن يعنى برؤية الصورة مجتمعة، من الطرفين معا، من دون فصل بينهما، بعد أن أحسَّ بأنَ إنكاره لتلك الثنائية (اللفظ والمعنى) يخدم فكرة الإعجاز التي كانت تشغل باله. وقد يوحي اهتمام عبد القاهر بالمعنى بأنَّه منحاز إلى جانب المعنى دون اللفظ. وهذا الاعتقاد صحيح من جهة وخاطئ من جهة أخرى، ذلك بأنَّ عبد القاهر لا يقصد بالمعنى المعنى العقلي المنطقي، وإنما يقصد به المعنى الشعري المتولد من الصياغة، فهو قد أهتم بالمعنى مع اهتمامه بالصياغة، وذهب إلى أنَّ الألفاظ خدم للمعاني وأوعية لها، فهي تتبعها في حسنها وجمالها، وقبحها ورداءتها.([24])، أي أنَّ للألفاظ وظيفة معينة عليها أن تؤديها، وإلا فلا قيمة لها في ذاتها، على أنَّ الألفاظ تتحدد قيمتها بمقدار ما توحيه من داخل الصورة المركبة، وأنَّ مصطلح (المعنى) عند عبد القاهر يعني الدلالة الكلية المستمدة من الوحدة الناشئة من كليهما، أي من (اللفظ والمعنى)، وهذه هي خلاصة نظريته في (النظم).ويمكن النظر في قضية اللفظ والمعنى بالوقوف عند آراء أصحاب المصنفات النقدية والبلاغية وفق اتجاهين –أنصار اللفظ و أنصار المعنى:

     ويمثل هذا الاتجاه الجاحظ الذي بحث في أسرار الإجادة في إبداع النص الأدبي، فوقف بين الإجادة في إبراز المعنى أو في الكيفيات التعبيرية والأسلوبية في نقل الأفكار والمعاني إلى المتلقي فقال مقولته النقدية المعروفة:"المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"()[25]. أي أنَّ الشعر يصنع بالكلمات وليس بالمعاني.

    أسس الجاحظ بهذا الكلام مدرسة نقدية مستقلة؛ ذلك أنه اهتم بنظم الشعر أو تأليفه فلا يمكن للمعنى أن يظهر في رقيه وجدته ما لم يستقم له تعبير مناسب، واستند الجاحظ في ذلك إلى آي القرآن الكريم ممثلا لسمو ورقي المعاني المعبر عنها بأسلوب إعجازي في قوة السبك وإيجاز القول وغير ذلك ... ولذلك نقول إن الجاحظ لم يفصل بين اللفظ والمعنى، بل جمع بينهما في تبيين قيمة الجمال الأدبي؛ قال:" إن كان المعنى شريفا واللفظ بليغا وكان صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة"([26]).

الطبع و الصنعة عند وأولهم الجاحظ الذي يرى أن للطبع أثر واضح في الأعمال الأدبية وعلى الشاعر أن يستجيب لطبعه وملكته الفطرية في الإحسان في قول الشعر  ويقسّم ابن قتيبة الشعراء إلى مطبوعين ومتكلّفين يقول: " ومن الشعراء المتكلّف والمطبوع, فالمتكلّف هو الذي قوّم شعره بالثقاق،ونقّحه بطول التفتي وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير و الحطيئة... وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحوليّ المحكّك المنقح. وكان زهير يسمي كبرى قصائده الحوليات."([27]). و يقول أيضا:"والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي, وأراك في صدر بيته عجزه. وفي فاتحته قافية، و تبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة. وإذا امتحن لم يتلعثم ولم يتزحر...و المتكلّف من الشعر وإن كان جيدا محكما فليس به خفاء على ذوي العلم, لتبيّنهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكير وشده العناء, وترشح الجبين, وكثرة الضرورات, وحذف ما بالمعاني حاجة إليه, وزيادة ما بالمعاني غنى عنه...وتبيّن التكلف في الشعر أيضا بأن ترى البيت فيه مقرونا بغير جاره, ومضموما إلى غير لفقه"([28]).

تطبيق:قضية اللفظ و المعنى:

    نشأ الفصل بين اللفظ والمعنى مع المعتزلة الذين فسروا القرآن" تفسيرا يعتمـد على المجاز وسيـلة من وسائل التعبير، وفنا من فنون القول ، له أمثاله في الشـعر القديم ، وألحوا على تجريد المعنى القرآني ، والابتعاد به عن أشكاله الظاهرية وما لها من دلالات مادية محسوسة ، تتنافى مع الأصل العام للتوحيد . وانقسم النص القرآني ، نتيجة ذلك ، قسـمة واضحة ، فأصبح هناك معنى مجرد قائـم بذاته و"صـور مجازية " ، هي بمثابة أوجـه للدلالة على ذلك المعنى"([29]) . ومن هنا انتقل الفصل من المشاكل العقائدية إلى مباحث الأدب والشعر فظهر عند الجاحظ الذي قلل من شأن المعاني، وأظهر البراعة في الصياغة والتصوير ([30]) .

    نقول إن الجاحظ لم يفصل بين اللفظ والمعنى، بل جمع بينهما في تبيين قيمة الجمال الأدبي؛ قال:" إن كان المعنى شريفا واللفظ بليغا وكان صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة"([31]). واللفظ عند الجاحظ لا يعني أصوات الحروف فقط، وإنَّما يعني المعنى الشعري، الذي يقابل المعنى العقلي. ويرى "مصطفى ناصف" أنَّ اللفظ" في مقولة الجاحظ استعمل للدلالة على "الصورة الدقيقة المعنى وما تنطوي عليه من تفصيلات تهمل غالبا في التعبير النثري"([32])،

أي أنَّ الجاحظ لم يفضل اللفظ بما هو أصوات، بل بما هو معنى شعري، ودلَّ على المعنى الشعري باللفظ، لأنَّ المعنى صار يعني المعرفة العقلية المنطقية الواضحة فكان اللفظ أقرب مصطلح يدلُّ به على جوهر الشعر. إذن المعاني مطروحة في الطريق، وإنَّما الشأن في كيفية صياغتها شعرا.

أما ابن قتيبة لا يصرح بترجيح أحدهما على الآخر، ولكننا نستطيع تمييز تغليب المعنى على اللفظ في حسن الشعر بحيث  أهمل الشكل في الشعر واعتبره صياغة لفظية جميلة وإيقاعا عذبا يغلفان المضمون المراد من الشعر، وفيه فصل بين أربعة أضرب([33]).

 - ما حسن لفظه وجاد معناه .
     -ما حسن لفظه وحلا ، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى .
     -ما جاد معناه ، وقصرت ألفاظه .
     -ما تأخر معناه ، وتأخر لفظه .

   وهذا تقسيم منطقي استوفى فيها ابن قتيبة جميع الممكنات. وقد تأثر ابن قتيبة بأسلوب الفقهاء فجعله يريد من المعنى أن يكون حكمة أو قولا صالحا، ينتفع به الناس، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التي اختارها للضرب الذي جاد معناه وحسن لفظه، ومنها:

أيتها النفس أجملي جزعا

*

إنَّ الذي تحذرين قد وقعا

ومنها أيضا:

والنفس راغبة إذا رغبتها

*

وإذا تردُّ إلى قليل تقنعُ

 

-تطبيق:قضايا النقد عند الفلاسفة:

-الخيال و التخييل بين البحث الفلسفي و الدراسات النقدية:

   و تحدد لاحقا مصطلح الخيال في نطاق البحث الفلسفي، ثم انتقل إلى مجال الدراسات النقدية و البلاغية وأصبح يستخدم للإشارة إلى فاعلية الشعر و خصائصه و يصف طبيعة الإثارة التي يحدثها الشعر في المتلقي ،ويبدو أن أول من استعمل لفظ "تخييل"  هو الفارابي )ت339هـ) الذي أقام نظرية المحاكاة الأرسطية على أساس نفسي واضح، يكشف عن فهم نسبي لملكة التخيل عند الشاعر ، وفهم كامل لطبيعة الإثارة التخيلية التي يحدثها الشعر في  المتلقي . ثم تبعه في هذا ابن سينا ،آخذا إياه ممن سبقه من مترجمي كتاب "فن الشعر" لأرسطو ،وقد استعمله تفسيرا لكلمة المحاكاة الأرسطية ،لكنه لم يحدد معنى التخييل وطبيعته، و تحدث عن الأثر الذي يتركه العمل الأدبي في نفس المتلقي "يعرض لنا عند استماعنا للأقاويل الشعرية عند التخييل الذي يقع عنها في أنفسنا شبيه بما يعرض عند نظرنا إلى الشيء الذي يشبه ما نعاف:" فإننا في ساعتنا يخيل لنا في ذلك الشيء أنه مما يعاف فتنفر أنفسنا منه فنتجنبه، وإن تيقنا أنه ليس في الحقيقة كما تخيل لنا، فنفعل فيما تخيله لنا الأقاويل الشعرية، وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك كفعلنا فيما لو تيقنا أن المر كما خيله لنا ذلك القول فإن الإنسان كثيرا ما تتبع أفكاره تخيلاته...وإنما تستعمل الأقاويل الشعرية في مخاطبة إنسان يستنهض لفعل شيء.."([34]).وقد شبه أثر التخييل في المتلقي بالأثر الذي تتركه المحاكاة في النفوس عند أرسطو، إذ تعمل على إثارة انفعالات المتلقي مما يؤدي إلى تطهير النفوس مما بداخلها.

   وركز الفلاسفة على التخييل أكثر مما ركزوا على التخيل،وفهموا أن الشعر عملية تخييلية تم في رعاية العقل ،و كأن الشاعر يأخذ من المتخيلة و الوهم مادته الجزئية، ثم يعرضها عقله ويدع له وحده مسؤولية التصرف فيها،وعن طريق ممارسة العقل لدوره في ضبط قوة التخييل عند الشاعر ،وتوجيهها ، فإنه يمكن للشعر أن يؤثر في القوة المتخيلة للمتلقي وتلك بدورها ،تثير القوة النزوعية عند ذلك المتلقي، فتبعثها على التحريك نوعا ما لآن القوة النزوعية تخدم المتخيلة  وتستجيب لها ، ومن ثم ينتهي الأمر بالمتلقي إلى اتخاذ وقفة سلوكية خاصة ، تتجلى في فعل أو انفعال ، قادته إليه مخيلته التي تأثرت بالتخييل الشعري و استجابت له"([35]). و يرى حازم أن صناعة الشعر تقوم "على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل ، وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة"([36]).

 



 

[1]محمد مندور: النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر للطبع و النشر،القاهرة ،2004"، ص320.

 

[2] )أبو الطاهر إسماعيل ابن أحمد التجيبي،" المختار من شعر بشار، اختيار الخالديين"، تح، محمد بدر الدين العلوي،دار المدينة للطباعة والنشر، بيروت، ص132.

 

[3] محمد مندور،" المرجع السابق"،ص303.

 

[4]  محمد مندور،" المرجع السابق"، ص304.

 

[5]  نفسه،ج3، ص350-351.

 

[6] الحسن بن بشير الآمدي، "الموازنة" ج3، ص350. 

 

نفسه، الصفحة  نفسها.[7]

 

نفسه،ج3، ص350-351. [8]

 

طه مصطفى أبو كريشة، "النقد العربي التطبيقي بين القديم و الحديث"، ص75. [9]

 

) المرجع السابق، الصفحة نفسها.  [10]

([11]) نفسه، ص 223.

[12] ابن رشيق : العمدة ، ج2 ، ص282 .

[13] نفسه، الصفحة نفسها

[14] جابر عصفور : المرجع السابق، هامش صفحة 92 .

[15] ابن رشيق : الأنموذج ، ص 99 ـ 100 .

[16] ينظر: عيسى علي العاكوب: التفكير النقدي عند العرب، ص 316.

[17] ينظر: نفسه ، ص 316.

[18] منهاج البلغاء وسراج الأدباء . تحقيق : تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة. ط3 . دار الغرب الإسلامي . بيروت،1986 .، ص 70.

[19] عصام قصبجي: أصول النقد العربي. مديرية الكتب و المطبوعات الجامعية،سوريا، 1996،ص284.

[20] نفسه،ص .247.

[21]حازم القرطاجني: المصدر السابق،ص 71.

[22] الجاحظ:الحيوان: تحقيق : عبد السلام هارون،الناشر مصطفى البابي الحلبي، مصر،ط2،1965،ج 6،ص،280-281.

[23] الملك: الآية 05.

عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز،ص95-96.[24]

[25] الجاحظ: البيان و التبين، تحقيق : عبد السلام هارون،مكتبة الخانجي، القاهرة،ط2،1965 ،ج1،ص26.

[26] نفسه ،ج1،ص82

[27] ابن قتيبة :الشعر والشعراء ، ص77-78.

[28] ابن قتيبة :المصدر السابق ،ص 88-90.

 

[29]جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي عند العرب، نشر المركز الثقافي العربي،ط3، بيروت،الدار البيضاء، 1992. ، ص 314.

 

[30] ينظر: جابر عصفور: المرجع السابق، ص 315 – 316- 317.

[31]نفسه ،ج1،ص82.

[32] مصطفى ناصف: نظرية المعنى في النقد العربي، ص38.

[33]ابن قتيبة : المصدر السابق ،ج1 ، ص12-13-14.

 

[34] مصطفى الجوزو:نظريات الشعر عند العرب الجاهلية والعصور الإسلامية ،ج ،1ص115-116.

[35] جابر عصفور :المرجع السابق، ص 65.

[36] حازم القرطاجني: المصدر السابق، ص62.