محاضرات علم التراكيب شهر ماي
(عبد الغاني تريكي)

محاضرات شهر ماي علم التراكيب

شبه الجمل

ظرف الزمان ، وظرف المكان ، والجار والمجرور

سبب تسميتها بشبه الجملة

 لأنها لا تؤدي معنى مستقلاً في الكلام ، وإنما تؤدي معنى فرعياً ، فكأنها جملة ناقصة أو شبه جملة

التعلّق في الظرف والجار والمجرور

لزوم التعلق

لا بدّ للظرف أو الجار والمجرور من متعلَّق

فنقول مثلاً 

سافر صالح من الجزائر إلى قسنطينة بالطائرةِ ليزور والده

فـ ( من الجزائر ) و ( إلى قسنطينة ) و ( بالطائرة ) ، الجارّ في كلٍ متعلق بـ  سافر

التعلُّق : هو ارتباط شبه الجملة بالحدث الذي يدل عليه الفعل أو ما يشبهه ، بالإضافة إلى دلالته على الحيِّز الذي يقع فيه هذا الحدث

إذن فشبه الجملة تدل على معنى فرعي يتمم نقصان المعنى الذي يدل عليه الفعل أو ما يشبهه ، أي أن هذا المعنى الفرعي يرتبط بمعنى الفعل ، أي يتعلق به

والفعل وما يشبهه يدل على حدث ، والحدث لا يحدث في فراغ ، وإنما يحدث في زمان أو مكان.

فمثلاً :

 

 سافر صالحٌ يوم الجمعة

فـ ( يوم الجمعة ) مرتبط ارتباطاً وثيقاً – أي :

 متعلق - بـ  سافر  لأننا نفهم منه أن هذا الحدث وهو السفر حصل يوم الجمعة . وقد دلَّ الظرف هنا على معنى فرعي

ولو قلت :

 وقف صالحٌ أمام المنزل

 فـ ( أمام المنزل ) مرتبط أو متعلق بـ ( وقف ) ، لأننا نفهم منه أن هذا الحدث وهو الوقوف حصل في مكان معين هو أمام المنزل

وكذلك لو قلت :

 سافر محمّد من الجزائر إلى قسنطينة

 فإن حرفي الجر ( من ) و ( إلى ) مرتبطان أو متعلقان بـ ( سافر ) ، لأننا نفهم منه أن الحدث وهو السفر بدأ حدوثه من هذا المكان وانتهى الى ذلك المكان.

ما يمكن أن يكون مُتَعَلَّقاً به

لا بد أن يكون المتعلَّق به هو ما يدل على الحدث ، وهو الفعل أو ما يشبهه

لذا فإن الظرف أو الجار والمجرور الواقعين بعد المبتدأ ، في نحو

زيدٌ في البيت ، أو زيد أمام البيت – ليسا هما الخبر ، بل الخبر محذوف تقديره 

( كائن أو مستقر ، أو كان أو استقر ) ، إذ لا بد أن يكون الظرف أو الجار والمجرور متعلقان بما يدلّ على الحدث

 

الأمثلة على التعلّق في شبه الجملة 

المتعلَّق نوعان : مذكور ، ومحذوف

أمثلة المتعلَّق المذكور 

1- المصدر

مثل : أحبُّ السفرَ في القطار ليلاً

 . الجار والمجرور والظرف متعلقان بـ  السفر

2- اسم الفعل 

مثل : أفٍّ من المنافقين

 الجار والمجرور متعلقٌ بـ أفٍّ

3- اسم فاعل 

عليٌّ مسافر غداً في الطائرة

الجار والمجرور والظرف متعلقان بـ  مسافر

4- الصفة المشبهة

مثل : خالدٌ شجاعٌ وكريمٌ في كلٍّ موقفٍ

 الجار والمجرور متعلق بـ ( شجاع ) و ( كريم ) ، وهما صفة مشبهة

5- اسم الزمان والمكان

 مثل : هذه الأرض كانت المَلْعَب لأطفالنا

 الجار والمجرور متعلق بـ  الملعب

6- اسم جامد مؤول بمشتق

 مثل : عليٌّ الأسدُ في القتال

 الجار والمجرور متعلق بـ ( الأسد ) ، بتأويل : جريء أو مقدام


أمثلة المتعلَّقِ المحذوفِ

1- أن يقع المتعلَّق خبراً 

 مثل : محمدٌ في الدارِ . كان محمد في الدار . إنَّ محمداً في الدارِ

الجار والمجرور في الأمثلة الثلاثة متعلق بخبر محذوف ، تقديره : كائن

2- أن يقع المتعلَّق صفةً

مثل : هذا كتابٌ من صديقٍ

 الجار والمجرور متعلق بصفة محذوفة ، تقديرها : كائن

3- أن يقع المتعلق حالاً 

 مثل : قرأت هذا الكتاب من صديقٍ

 الجار والمجرور متعلقٌ بحالٍ محذوفٍ ، تقديره : كائن

4- أن يقعَ المتعلَّق صلةً للموصول 

 مثل : الرجل الذي في البيت غريبٌ

 الجار والمجرور متعلقٌ بـ ( استقرَّ ) محذوفة ، وصلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب

5- أن يكون المتعلَّق مما جُرِيَ على حذفه

 كأن تقول لمريض : بالشفاء

 أو تقول لضيف تناول طعامك : بالصحة

 أو تقول لصديق تزوج : بالرفاء والبنين

 فـ ( بالشفاء ) جار ومجرور متعلق بفعل محذوف ، تقديره : شربتَ

و( بالصحة ) جار ومجرور متعلق متعلق بفعل محذوف ، تقديره : أكلتَ

 و ( بالرفاء ) جار ومجرور متعلق بفعل محذوف

 تقديره : تزوجتَ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 







الرؤية التركيبية في التراث

        تزخر لغتنا بالعديد من التراكيب اللغوية أو التعابير الدقيقة التى جرت فى سيرورتها وذيوعها مجرى الأمثال, وإن لم تكن أمثالًا بالمعنى القياسى, كما كثر ورودها فى التراث العربى نثرًا ونظمًا, وشاع استخدامها بين الخاصة والعامة

 

ومن خصائص هذه التركيبات أو الصيغ
1- إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكتابة، وهي مغلقة على نفسها ومكتملة بذاتها, وذات صياغة ثابتة أى؛ لا يجوز

 

2- التغيير فى صياغتها التكوينية, بحذف أو إضافة, على الرغم من ذيوعها أساسًا على نحو شفهى


3- أنها تشبه الأمثال فى وظيفتها الجمالية والاستدلالية والإشارية التى يلوح بها على المعانى تلويحًا, ولكنها تختلف عنها فى بنيتها الأسلوبية

        و لقد عالج النّحاة القدامى،والدّارسون المحدثون التّركيب معالجة شاملة، شملت جوانبه المختلفة، أما القدامى فقد اتّصفت معالجتهم بالدّقة والشمول، حيث حلّلوا التّركيب، وابرزوا الوظيفة النّحوية للكلمات المكونة له، على أساس أبوابها النّحوية داخل نسيج العلاقات التي تربط الكلمات بعضها ببعض، والتي تتحقق بها الفائدة، أو المعنى الذي يحسن السكوت عليه ؛ أما المحدثون  فنراهم منقسمين فاختلفت تعاريفهم على اختلاف مدارسهم ما بين مؤيد ومنتقد.   

 

 

أوّلا : التّركيب بين اللّغة والاصطلاح:

 إنّ معالجة أيّ موضوع يستدعي الولوج في معانيه اللّغوية والاصطلاحية، لكي تتوضّح مسالكه، لهذا حاولت أن انطلق من العامّ إلى الخاصّ، غير أننياصطدمتبتباين استعمالات التّركيب ومفاهيمه، ولعلّه أكثر المصطلحات اضطرابا وتداخلا.

 أ‌- التّـركيب لغة  :

 تغصّ بطون المعجمات اللّغوية بمعاني التركيب؛ فقد جاء في الصّحاح، ركّبه تركيبا إذا وضع بعضه على بعض، وفي اللّسان، تراكب السّحاب وتراكم إذا صار بعضه فوق بعض.

 أمّا المُركّب فيأتي دالاّ على الأصل والمنبت؛ إذ تقول: فلان كريم المركب، إذا أردت به كريم أصل منبته في قومه.

 والتّركيب بمعنى الضّم والتّأليف كذلك، فقد جاء في المعجم الوسيط:" ركب الشيء ... ضمّه إلى غيره فصار بمثابة الشّيء الواحد في المنظر، وركّب الدّواء ونحوه ألّفه من مواد مختلفة.

 إنّ التّركيب يقترن بمعان تكاد تنحصر في الضّم، والجمع، والتّأليف ومن هذا المنطلق نجد أنّ هذه المعاني تجتمع في نقطة الثّنائية فلا ضّم، ولا جمع، ولا تأليف إلاّ ما كان مؤلّفا من وحدتين فأكثر.

 ويفضّل بعض اللّغويين المحدثين استعمال كلمة التّركيبStructure  التي يدلّ اشتقاقها التاريخي على طريقة بناء الشّيء وإقامته، ويضم قاموس اللسانيات لجورج مونان   George Mounin تعريفا للتركيب يتلخّص في تعلّق عناصر الوحدات فيما بينها، لتمكِّن اللّغة من أداء وظيفتها الأساسية المتمثّلة في الوظيفة التّواصلية.

 ب‌-  التركيب في الاصطلاح  :

 يتّضح من خلال المعاني اللّغوية لمصطلح التّركيب أنه يقوم على الثنائية، وهذا ما نجده في قول الخليل بن أحمد (ت175هـ):« إنّ الكلمتين إذا ركبتا، ولكل منهما معنى وحكم، أصبح لهما بالتركيب حكم جديد ».

 و إنّ من المفيد أن نتعرّض للتفريق بين التّأليف والتركيب ،إذ إن ضمّ كلمة فأكثر إلى كلمة أخرى، كَبَعْلَبكّ*، وغلام زيد... تركيبٌ ، بخلاف التّأليف؛ إذ يشترط  فيه وقوع الألفة بين الجزأين، فهو أخصّ منه وهو تركيب وزيادة؛ والترتيب كالتركيب ، لكن ليس لبعض أجزائه نسبة إلى بعض، تقدما وتأخرًا، وجمع الحروف البسيطة ونظمها لتكون كلمة.

جاء في أنوار الرّبيع أنّ التّركيب هو ضمّ كلمة إلى أخرى، لا على طريق سرد الأعداد، مثل قولك : قلم قرطاس، كتاب باب، فالمركّب إذا ما ضمّت فيه كلمة إلى أخرى بهذا المعنى، وهو أربعة أقسام:

 إسنادى: إن اشتمل على نسبة بين الألفاظ يحصل بها فائدة،… وإضافي : نحو كتاب الله، ووصفي: نحو الإنسان الكامل، ومزجي عددي : نحو خمسة عشر، وغير عددي كسيبويه."

 وهذا التّعريف جامع لمختلف أنواع التركيب، ولعلّ التركيب الإسنادي هنا هو الذي يدل على المعنى، بخلاف التّراكيب الإضافية والوصفية والمزجية التي قد تندرج ضمن التّراكيب غير التامّة التي لا يحسن السّكوت عليها. 

 وإذا نظرنا في الدّرس اللساني وبالأخصّ عند أندري مارتنيAndret Martiné  الذي تبنى مبدأ إزدواجية التقطيع articulation La double أوجد ما يسمى بالوحدتين الصّوتيتين، تنصرف دلالتهما إلى مصطلح  الفونيم Phonème، ومن شأن المزاوجة بينهما بجامع من العلاقة الاعتباطية أن تفضي  إلى إنتاج ملفوظ تتحدد أبعاده اللّسانية الدلالة صرفيا؛ ذلك أنّ الوحدات اللّسانية الصّوتية تقوم فيما بينها علاقات تركيبية تنهض على أساس من التّبـاين والتّخالف، يتمثّل بُعدها الصّرفي في إنتاج ملفوظات ذات معان مفردة لا يستقيم الكلام بها على انفرادها معزولا بعضها عن بعض، وإنما يستقيم باجتماعها على شكل ضمائم من الكلمات أوالوحدات الصّرفية الدنيا؛ أي بتضامّ أزواج مما يصطلح عليه لسانيا بالمونيمات  Monèmes أوالمورفيمات Morphèmes  وقد تكلّم عبد القاهر الجرجاني في هذا الشّأن، ورأى أنّ الكلمات لا يمكن أن تؤدّي وظائفها الدّلالية حين يعزل بعضها عن بعض، وإنّما ألحّ على اجتماعها، وجعل بعضها بسبب من بعض، مع توخّي معاني النّحو فيما بينهاولعلّ ما ذهب إليه مارتيني في منهجه الوظيفي هو نفسه ما يقصده المنزلي عندما تحدث عن التّركيب المزجي، فإنّه يفقد دلالته عند تقطيعه إلى وحدات صغرى.

 ونلمح هذا المفهوم عند ابن جني (ت392هـ)، ويدل أن تركيب هذه الكلمة من (ب ز و) أن الفعل منها عليه تصرف وهو قولهم :« بزا يبزو إذا غلب وعلا  ومنه البازي ».

 كما أن أندري مارتني قد تحدّث عمّا يسمّى بالمونيمات المركبة  Synthèmes، والتي عرّفها بأنها ائتلاف بين مونيمين أو أكثر، منكشفين بواسطة الاستبدالفهذا التعريف قريب من الاستخدام السوسيري لمصطلح التركيب Syntagme والذي يتشكل عنده من وحدتين متعاقبتين أو أكثر، تتشكل فيما بينها علاقات سياقية تتسم بالطابع الحضوري، تقوم أساسا على تقابل عبارتين أو أزيد في سلسلة موجودة بالقوة؛ إذا فالتركيب عند سوسير لا يخصّ الكلمة في حد ذاتها، وإنما يخص مجموعها.

 والظّن أنّ هذا المفهوم يتضمّن معنى التّركيب الإسنادي، يضيف المنزلي شارحا الإسناد بأنّه إن أفاد فائدة تامّة مقصودة يحسن السّكوت عليها سُمّي كلاما وجملة نحو: العلم نور والأدب مشكور، وأنّه إن أفاد فائدة غير مقصودة سُمّي جملة لا كلاما كجملة الشّرط والصّلةفحسبه الكلام والجملة هما نوع من أنواع التركيب،كما أن العلاقة النّحوية هي التي تحدد نوع التركيب، ذلك «أنّ التركيب على ضربين؛ تركيب إفراد، وتركيب إسناد، فتركيب الإفراد أن تأتي بكلمتين فتركّبهما وتجعلهما كلمة واحدة نحوية يرتبط بعضها ببعض لتتمّم معنى واحدا يصلح أن يشغل وظيفة نحوية واحدة أو عنصرا واحدا من عناصر الجملة، بحيث إذا أفردت هذه المجموعة وحدها لا تكون جملة مستقلّة. وبذلك ينتقل المركّب الاسمي بوصفه عنصرا واحدا من عناصر الجملة إلى مجال دلالي مختلف قد يتّسع وقد يضيق فيصبح صالحا للتبادل مع كلمات أخرى، ويصبح صالحا للاستجابة الوظيفية في علاقة نحوية مع مجموعة من مجالات دلالية أخرى»  والعلاقة الإسنادية مرتبطة بالاختيار، ولقد عبَّر ابن جني عن هذا في قوله :« ألا تراك حين تسمع (ضرب) قد عرفت حدثه، وزمانه، ثم تنظر فيما بعد، فتقول : هذا فعل، ولابدّ له من فاعل ، فليث شعري من هو؟ وما هو؟ فتبحث حينئذ إلى أن تعلم الفاعل من موضع آخر لا من مسموع ضرب.ألا ترى أنّه يصلح أن يكون فاعله كلَّ مذكّر يصح منه الفعل مجملا غير مفصل.فقولك : (ضرب) زيد وضرب عمرو، وضرب جعفر ونحو ذلك شَرع سواء، وليس بأحد الفاعلين هؤلاء ولا غيرهم خصوص ليس له بصاحبه كما يخصّ بالضرب دون غيره من الأحداث وبالماضي دون غيره من الأبنية»  فالفعل ضرب بدلالته على الزّمن والحدث يختار فاعله، فلا يصحّ إلاّ أن يكون مذكرا وأن يكون قادرا على الضّرب، فالعلاقة النّحوية قد اختيرت على أساس كلمة " ضرب"؛ غير أنّ تشومسكي Chomsky يتحدّث عن الاختيارولكنّه اختيار مقيّدSelection Restriction، مهمّته أنّه يهدف إلى إزالة التناقض الدّلالي بين التّراكيب الإسنادية وغيرها.

 وما نستخلصه من فحوى ما تقدم أن التركيب هو ذلك التّلاؤم بين الكلمات بغية الوصول إلى معنى معيّن، فهو يتضمن ضمّ الكلمات بعضها إلى بعض بناء على المعنى المنشود مع مراعاة معاني النّحو،وما يترتّب عليه من تقديم وتأخير وذكر وحذف وتعريف وتنكير وغير ذلك. وهذا هو المنشود، فالتعريف الأوّل يختص بتكوين الكلمة "مفردة" في حد ذاتها ، غير أنّ التعريف الأخير المراد به ضمّ وترتيب الكلمات ضمن نسق معين من أجل توليد جملة أو جمل تؤدي معنى معيّنا.

 ففي حين يجعل بعضهم التّركيب قطاعا من النّحو يصف القواعد التي من خلالها نؤلف في جمل الوحدات الدالة،نجد آخرين يفرّقون بين علم النّحو وعلم التّراكيب، فيجعلون علم التّراكيب أعمّ وأشمل، بحيث يشمل علم الصّرف وعلم النّحو ويسمّونه علم القواعد، وهو يختصّ بدراسة العلاقات داخل نظام الجملة وحركة العناصر يقول ماريو باي:« فالتغيرات الحادثة هنا داخلالكلمات نفسها تشكّل موضوع علم الصّرف الذي يختصّ بدراسة الصّيغ،وتنظيم الكلمات في نسق معيّن يشكّل موضوع علم النّحو،وإنّ الصّرف والنحو ليكوّنان ما يسمى بعلم القواعد أوالتّركيب أو قوانين المرور التي لايمكن أن تنتهك تجنّبا للوقوع في ورطة تفوق تيّار المعاني المتدفّق الذي يربط متكلّما بآخر،وتوقف التفاهم الذي هو الهدف الأساسي أو الوحيد للّغة ».

   كثيرا ما يعبّر عن مصطلح الجملة بالتركيب، فهي عند تمّام حسّان النمط التركيبي نفسهو تقول خولة الإبراهيمي:« قد نجد هذا المصطلح مستعملا للدّلالة على مفهوم الجملة ولكنّه أوسع مجالا منه، إذ يدلّ على أنواع من التّراكيب عديدة لا تدخل في عداد الجملة، مثل : التّركيب العددي والتّركيب المزجي والتّركيب الإضافي ».

 ثـانيـا : الجملة والكلام والقول.

 مفهوم الجملة؛ اجتهد الباحثون منذ أقدم العصور على اختلاف منازعهم ومناهجهم، في تحديد مفهوم مصطلح الجملة ، فقدّموا لنا عددا ضخما من التعريفات أربى على ثلاثمائة تعريف، وهذه الكثرة من التّعريفات تُبرز الصّعوبة البالغة في تحديد الجملة، فهي على كثرتها غير جامعة ولا مانعة كما يقول المناطقة، ذلك بأننا نعرف معرفة حدسية حدود الجملة تقريبا، ولكننا لا نستطيع أن نعبّر تعبيرا دقيقا أو نضع المعايير الضّابطة لهذا الحدس.

       ولم يكن نحاة العربية بمنأى عن هذه الاختلافات التي تطال مفهوم الجملة، فقد جعل بعضهم مصطلح الجملة رديفا لمصطلح الكلام كابن جني والزمخشري،جاء فيالخصائص: «أمّا الكلام فكلّ لفظ مستقلّ بنفسه مفيد لمعناه وهو الذي يسميه النحويون الجمل نحو زيد أخوك وقام محمد » وقال الزمخشري: «الكلام هو المركّب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى وذلك لا يأتي إلاّ في اسمين كقولك زيد أخوك وبشر صاحبك، أو في فعل واسم نحو قولك ضرب زيد وانطلق بكر ويسمى الجملة»  ويضيف ابن جني موضّحا الفرق بين القول والكلام:« قولنا قام زيد، يعدّ كلاما، فإن أدخلنا عليه (إن) إن قام زيد، رجع بالزّيادة إلى النقصان فصار قولا لا كلاما، ألا تراه ناقصا ومنتظرا التّمام بجواب الشّرط ».                    ويتبيّن من آراء ابن جني، أنّ القول أعمّ من الكلام والجملة، لا يشترط  فيه أن يؤدي معنى مستقلا بنفسه، فتكون بذلك الوحدات المفردة والمركبات التي لم تتضمن معنى مستقلا قولا.

        لقد جعل ابن فارس كلاّ من الكلام والجملة مترادفين، وهذا ما نلمسه في باب العموم والخصوص، عندما يقول:« العام الذي يأتي على الجملة لا يغادر منها شيئا وذلك كقوله جل ثناؤه: ﴿خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاءٌ﴾ وقال : ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ثم في الباب نفسه يقول:« وقد يكون الكلامان متصلين، ويكون أحدهما خاصا والأخر عاما » لقد عرّف أحمد بن فارس الكلام، في باب القول من حقيقة الكلام فيقال:«زعم قوم أن الكلام ما سمع وفهم،وذلك قولنا :"قام زيد ، وذهب عمرو".وقال قوم: الكلام حروف مؤلّفة دالّة على المعنى » والقولان متقاربان، لأنّ المسموع المفهوم لا يكاد يكون إلا بحروف مؤلفة تدلّ على المعنى.

       يرى محمّد حماسة في التّعريفين اللذين أوردهما ابن فارس، أنّ مدلول الكلام مطابق للجملة، لأنّ تمثيله يشير إلى ذلك صراحة، ولنا أن نفهم أنّ(الفهم) في التعريف الأوّل هو الفهم الحاصل من جملة مفيدة، وإن كان لم يشترط التّركيب، فقد يكون المسموع المفهوم كلمة واحدة مثلا، ولكنّها تؤدّي من حيث الدّلالة الكاملة ما تؤديه مجموعة كلمات، وفي محاولة ابن فارس التوفيق بين التعريفين اللذين أوردهما كان دقيقا عندما قال هذه العبارة العلمية (لا يكاد) ونحن بعد لا نرى أن هذين التعريفين متقاربان كما رأى ابن فارس لأنّ أوّلهما لا يشترط مجموعة (حروف) أيّ كلمات، ولا يشترط الإسناد أو التأليف وهو تعريف دقيق، أما الثاني فإنه يشترط أن يكون الكلام أو الجملة (مؤلفا) من حروف وهذا التعريف مع صحّته يدفع بالدّارس أن يقدّر ويؤوِّل عندما يجد جملة مفيدة من (حرف) واحد مثلا حتى يكون الكلام حروفا مؤلفة . وسوّى عبد القاهر الجرجاني  هو أيضا بين المصطلحين، حيث يقول:« اعلم أنّ الواحد من الاسم والفعل والحرف يسمّى كلمة، فإذا ائتلف منها اثنان فأفادا نحو خرج زيد سمّي كلاما وسمي جملة » وهنا يشترط الجرجاني التّركيب والإفادة.

       ولم يستخدم سيبويه (ت180هـ) مصطلح الجملة على الوجه الذي تناوله به من جاء بعده كما صرّح بذلك محمد حماسة إذ يقول:« ولم أعثر على كلمة الجملة في كتابه إلا مرّة واحدة ، جاءت فيها بصيغة الجمع ، ولم ترد بوصفها مصطلحا نحويا، وردت بمعناها اللغوي »                             وقد استنتج ابن جني أنّ سيبويه قد عنى بالكلام الجملة حين قال:«قال سيبويه : اعلم أنّ (قلت) في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها،وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا ففرق بين الكلام والقول كما ترى...ولما فيه أنّ الكلام هوالجمل المستقلة بأنفسها الغانية عن غيرها »  ويبدو أنّ ابن جني قد استنتج هذا المعنى من خلال مدارسته للكتاب، فمصطلح الجملة بالمعنى المعروف، ظهر إذا على يد من جاء بعد سيبويه من أمثال ابن جني والزمخشري وقد سوّوا بين مصطلح الكلام والجملة ، ودرج على ذلك جمهور النّحاة كما يقول أبو البقاء العكبري الذي حشد أدلّة متعدّدة ليبرهن على أنّ« الكلام عبارة عن الجملة المفيدة فائدة تامة وأنه لفظ يعبّر بإطلاقه عن الجملة المفيدة وأنّ هذا قول جمهور النحاة »، غير أن هناك من اعترض على استنتاج ابن جني، فالرازي في باب أفرده للمباحث المتعلّقة بالكلمة يقول:«فالكلمة غير الكلام، فالكلمة هي اللّفظة المفردة، والكلام هو الجملة المفيدة،... وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين، وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق  سوى أنه نقل عن سيبويه كلاما مشعرا بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة، وذكر كلمات أخرى إلا أنها في غاية الضعف»  ويذكر آخر أنه قد استخرج حوالي مائة موضع ذكر فيها سيبويه مصطلح الكلام ولم يكن يعني به الجملة بتاتا، فوجد أن مصطلح الكلام كان يعني به عدة معان أهمها : الاسم، الحرف، عموم النثر العربي، تمام الفائدة وغيرها.

        بينما فرّقهم بعضه الآخر بين المصطلحين؛ولعلّ أوّل من استعمل مصطلح "الجملة" بمفهومه النحوي صراحة، هو المبرّد(ت285هـ) في مقتضبه، عند حديثه عن الفاعل فقال:« هذا باب  الفاعل وهو رفع ، وذلك : قام عبد الله، وجلس زيد. وإنما كان الفاعل رفعا لأنه هو والفعل جملة يحسن السّكوت عليها، وتجب بها الفائدة للمخاطب. فالفاعل والفعل بمنزلة الابتداء والخبر، إذا قلت: قام زيد فهو بمنزلة قولك : القائم زيد» [41]وفي هذا الشّأن يذكر تمّام حسّان أنّ المبرّد لم يفرد بابا خاصا للجملة معرفا لها ومبينا أقسامها وعناصرها، وأنواعها، وإذا كان لفظ الجملة اتّخذ لديه مصطلحا فالمصطلح لا يأتي هكذا طفرة، إنّما يخضع لمراحل يمرّ بها واتّفاق يجمع عليه العلماء ،كما أن للمصطلح شروطا يجب أن تتوافر فيه.

       وممّن فرّق بين الجملة والكلام الأسترباذي(ت686هـ) الذي يقول:« إن الجملة ما تضمّنت الإسناد الأصليّ  سواء كانت مقصورة لذانها أو لا. كالجملة التي هي خبر المبتدأ وسائر ما ذكر من الجمل فيخرج المصدر ، واسما الفاعل ، والمفعول، والصفة الشبّهة، والظّرف مع ما أسند إليه والكلام ما تضمن الإسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته فكلّ كلام جملة ولا ينعكس».

        يرى ابن هشام(761هـ) أنّ الإفادة تخصّ الكلام دون الجملة، « ولهذا تراهم يقولون جملة الجواب وجملة الصلة، وكل ذلك ليس مفيدا ، فليس بكلام ،والكلام هو القول المفيد بالقصد » والإفادة عنده « ما دل على معنى يحسن السكوت عليه، والجملة عبارة عن الفعل وفاعله كـ (قام زيد) والمبتدأ وخبره كـ(زيد قائم) وما كان بمنزلة أحدهما نحو : ضرب اللص، أو قام الزيدان؟ وكان زيد قائما، وظننته قائما ».                               إذا؛ الجملة عند ابن هشام تقوم على الإسناد سواء أفاد أو لم يفد؛ فالتركيب الإسنادي يسمى جملة، فإن أفاد سمي كلاما.   ويأتي السيوطي ليُوفق بين الاتجاهين السّابقين، حيث حدّ الجملة بأنها القول المركب، وجعل أساسها الإسناد مقصودا لذاته أولا. ثم أباح مرادفتها للكلام معلّلا ذلك على أنّه على سبيل المجاز قائلا:« وأما إطلاق الجملة على ما ذكر من الواقعة شرطا أو جوابا أو صلة فإطلاق مجازي، لأن كلا منهما كان جملة قبلُ، فأطلقت الجملة عليه باعتبار ما كان كإطلاق اليتامى على البالغين نظرا إلى أنهم كانوا كذلك ».

 ومن النّحاة من يرى أنّ الخلاف بين الفريقين خلاف لفظيّ منشؤه غياب المصطلح النّحوي المناسب لهذا النّوع من التّركيب الذي يقوم بوظيفته ضمن تركيب أكبر (الجملة)، فالنحاة الذين يقولون بترادف الجملة والكلام ليس عندهم إشكال في أنّ التركيب التالي:"بلغني أبو حنيفة علمه وافر" جملة مكونة من ثلاث أجزاء هي : "بلغني" و"أبو حنيفة علمه وافر"و "علمه وافر"وليس كل جزء من الأجزاء مستقلا بذاته بل هو جزء من تركيب أكبر وهو الجملة، أمّا الأجزاء المكوّنة لهذا التّركيب فليست جملة لعدم انطباق حد الجملة (الكلام)  عليها لخلوها من شرط الاستقلال ، لأنّ الجملة عندهم كلام مستقل مفيد لمعناه.....

الدرس اللساني الحديث وعلم التّراكيب

 

اولا - مستويات اللغة العربية اللسانية

     إذا كانت اللسانيات  في أبسط تعريفاتها هي الدراسة العلمية للغة ، فإن تحليل لغة من اللغات لا يتم إلا بعد تحديد مستوياتها  اللسانية  ، ومن هذه المستويات ما يلي :

 1- المستوى الصوتي

المستوى الصوتي مستوى لساني ينظر إلى اللغة كبنية صواتية ، إذ يعالج أصوات اللغة من حيث مخارجها صفاتها ...الخ ، والتحليل اللساني للغة  يبدأ بالأصوات باعتبارها العناصر الأولى التي تتشكل منها الكلمات ، أو الوحدات الدالة ، وهذا المجال يهتم به علم الأصوات أو علم الصواتة .

2-  المستوى الصرفي 

بعد انتهاء المستوى الصوتي  ينظر في بناء الكلمة من حيث الصيغة الصرفية واستحضار القواعد المسؤولة عن سلامة بناء الكلمة ، وهذا المجال يهتم به علم الصرف أو ما يعرف بالمورفولوجيا .

3-  المستوى التركيبي

يحدد التركيب بكونه تلك الدراسة التي تتناول صيغ اللغة ، أو أجزاء الخطاب تأليفا وتركيبا ، والتركيب مستوى من مستويات التحليل اللسانية الحديثة ، وهو  فرع من فروع علم اللسانيات إلى جانب فروع أخرى منها الدلالة الصواتة ، المعجم .

وهو علم  دقيق  مجاله الجملة  تأليفا وتركيبا ، إذ هو علم يهتم بدراسة العلاقات  التركيبية داخل الجمل وبدون هذه العلاقات تصبح الكلمات مبعثرة بلا قيمة  ..

4- المستوى الدلالي

يقصد بالمستوى الدلالي في  إطار النظرية اللسانية العامة: " تلك الدراسة التي تتناول معاني الكلمات والمركبات والجمل والتعابير ،وحقولها وعلاقاتها الدلالية

5- المستوى التداولي .

يتناول هذا المستوى اللساني مجال استعمال اللغة من قبل المتكلمين والمخاطبين ، ودراسة جوانب هذا الاستعمال النفسية والاجتماعية والتواصلية والحضارية وما إلى ذلك في فضاء زمكاني محدد.

إن الفصل  بين هذه المستويات اللسانية هو فصل إجرائي فقط ، إذ تتفاعل هذه المستويات فيمالا بينها وتتكامل .

وإذا تأملنا بدقة في التراث اللساني العربي القديم يتبين أن  القدماء كانوا بالفعل يأخذون بعين الاعتبار تكامل المستويات اللسانية أثناء دراستهم لظواهر اللغة ، ويظهر ذلك واضحا من خلال مؤلفاتهم ككتاب سيبويه الذي كان يعتبر النحو مجالا واسعا لدراسة اللغة من  كل جوانبها الصرفية والصوتية والدلالية والتداولية ، ذلك أن  النحو عنده  هو دراسة تركيبية للغة صوتا وصرفا وتأليفا ودلالة وهو ما نجده أيضا واضحا عند ابن جني من خلال تعريفه للنحو. سنركز في الفقرات اللاحقة على تكامل مستويين لسانيين ويتعلق الأمر بتكامل التركيب والدلالة وسنوضح ذلك من خلال مناقشتنا لوظائف مكونات الجملة وخاصة الفاعل والمفعول في اللغة العربية .وسنتناول الفعل والمفعول في بنية الجملة المبنية للمعلوم والجملة المبنية للمجهول .

ثانيا-  وظائف مكونات الجملة في اللغة العربية قضايا  تركيبية ودلالية 

    في بنية الجملة  الفعلية العربية  يتصدر الفعل الفاعل والمفعول ،ويعتبر الفعل المكون الأساسي في الجملة الفعلية ، بل تعتبره  بعض اللسانيات  قطب الجملة.وعندما نتأمل  في التراث اللغوي العربي ونتعمق في دراسته نرى أن  النحاة والبلاغيين  كانوا يعتنون بتحديد وظائف مكونات الجملة؛إذ يرى النحاة أن الفعل على المستوى الدلالي يؤدي وظيفة دلالية تتمثل في تحديد الحدث أو ما يقوم مقامه .

وبمعنى أخر إن الفعل يتميز بقوة انتقائية تمكنه من انتقاء الأسماء التي تشتغل محلات الفاعلية والمفعولية ، ويكون هذا الانتقاء ذا طبيعة تركيبية ، حيث ينتقي الفعل الفاعل والمفاعيل المناسبة ، وبناء على ذلك إن الفعل في اللغة العربية يؤدي وظيفة أساسية في الجملة الفعلية ، كما يتحكم من الناحية التركيبية والدلالية في باقي مكونات الجملة.أما عن وظيفة الفاعل والمفعول التركيبية والدلالية فإن أغلب النحاة يرون أن وظيفة الفاعل هي الفاعلية ، وأن وظيفة المفعول هي المفعولية ،رغم أن النجاة  لم يوظفوا مصطلح وظيفة ، وإنما استعملوا مصطلح عام هو لفظ " معنى " : معنى الفاعلية ومعنى المفعولية.

 

وتتضح الوظيفة التركيبية للمفعول مثلا في تعريفات النحاة ، فهم يعرفونه  بأنه ما وقع عليه فعل الفاعل.

واهتمت اللسانيات الحديثة  بدورها  بوظائف الجملة ، ففي إطار النحو الوظيفي يرى أحمد المتوكل أن كلا من الفاعل والمفعول به وظيفة تركيبية أساسية.

وفي اللسانيات التوليدية ، ولاسيما في البرنامج الادنوي فإن الفعل الرئيسي ،وبالإضافة إلى ما ينطوي عليه من معان ذات طبيعة مورفولوجية ، أو ذات أصول تصريفية كالزمن والتطابق ،والإعراب والبناء ، فإن قاعدته الدلالية أو رصيده المعنوي يتسع لقيمة دلالية تتمثل باختصار في معنى الحدث للفعل ، وبلغة أدق إن الفعل من حيث بنيته التكوينية الأساسية له بعدان : بعد مورفولوجي ، وبعد دلالي .

 ويرى عبد العزيز العماري أن كل دور دلالي يناسبه موقع تركيبي.

 

      ووظفت  اللسانيات الحديثة في هذا الإطار  مصطلحات أكثر دقة للتعبير عن مفهوم الوظائف التركيبية والدلالية ومن هذه المصطلحات  : منفذ ، مستقبل ، مستفيد ...ألخ ،  وعليه يعتبر النحو التوليدي  الفاعل من الناحية الدلالية منفذا والمفعول به مستقبلا .

  واعتماد على ذلك  تحلل جملة من قبيل :

      ذهب خالد من فاس إلى مراكش

 على النحو الأتي:

ذهب ( محور – مصدر – هدف )

بينما جملة من قبيل :

يوجد الرجل في الحقل :

يوجد ( محور – محل )

      يتبين مما سبق أن النظريات اللسانية اهتمت بوظائف الجملة ، إلا أنها  لم تنطلق من فراغ ، ولم تبدأ من نقطة الصفر ، بل  استفادت بطريقة أو أخرى من الدرس اللغوي العربي القديم . 

ثالثا-  الفاعل النحوي والفاعل الدلالي (المنطقي) : أية علاقة ؟

    ليس كل اسم مرفوع بعد الفعل يشتغل كفاعل حقيقي ، أو معنوي ، وإنما قد يكون فاعلا نحويا أو تركيبيا ، أي له وظيفة تركيبية وليست وظيفة دلالية ، وما يقال عن الفاعل يقال عن المفعول به ، كما تسعى هذه الفقرة إلى إبراز  أن الإجراءات الصرفية تساهم في تغيير بنية الفعل التركيبية ، إذ تساهم في تحويل الفاعل إلى مفعول به.

   بداية يمكن أن نميز في اللغة العربية بين نوعين من الفاعل : فاعل حقيقي وفاعل نحوي أو تركيبي ،ونقصد بالفاعل الحقيقي  من الناحية الدلالية  :الفاعل الذي يفعل الفعل ويحدثه ويقوم به  ، نحو قولنا :

                قام زيد

             دخل الطالب

إن الفاعل  المنطقي ، أو الدلالي هو الذي يدل على الذي قام بالفعل ، أو نفذ الواقعة الدال عليها الفعل أو المحمول نفسه، وهو الذي يظهر عادة في تركيب البناء للفاعل، أو ما يعرف ب: (المبني للمعلوم )،  بينما الفاعل النحوي ،  هو الذي لا يحدث العمل أو يقوم به ، وهو الفاعل الذي تقتضيه البنية التركيبية ، وذلك تطبيقا لمبدأ ملء موقع الفاعل أو ما تعبر عنه اللسانيات وخاصة اللسانيات التوليدية بمبدأ الإسقاط الموسع  الذي ينص على أن يكون لكل جملة فاعل . من هنا يمكن أن نميز بين وظيفتين مختلفتين للفاعل في اللغة العربية  :وظيفة تركيبية ووظيفة  دلالية ،  ذلك أن هناك تراكيب  لغوية يسند فيه الفاعل إلى الفعل ويبنى عليه ،ويظهر وكأنه فاعلا في حين أنه ليس فاعلا  حقيقيا (دلاليا ) ،وإنما يكون فاعلا تركيبيا ، ومن ثم فإن وظيفته تكون وظيفة تركيبية فقط وليست وظيفة دلالية ، مما يجعلنا نستنتج  القاعدة الآتية :

ليس كل ما أسندت إليه وظيفة الفاعل هو فاعل ".

      إذ يشترط في كل مكون سيحمل وظيفة الفاعل أن يكون حاملا للوظيفة الدلالية منفذ ، وإلا فهو فاعل نحوي ، أو بنيوي فقط وبمعنى أخر يشترط في الفاعل المنطقي من الناحية الدلالية أن يكون منفذا في الوقت نفسه،  إن نحن وظفنا مصطلحات النحو الوظيفي .

لنتأمل الأمثلة الآتية :

-         سقط الجدار

-         مات زيد

-         انكسر الزجاج

-         تمزقت الورقة

من الناحية الدلالية والمنطقية لم يكن الجدار فاعلا للسقوط بالمعنى الحقيقي ، والحكم نفسه ينطبق على "زيد"  في المثال الثاني . كما أن"  الزجاج"  و"الورقة" لا يقومان بدور حقيقي فعال ، فهما لم يفعلا  شيئا ولا دخل لهما في عمل الانكسار والتحريك ، وكل ما في ذلك أنهما استجابا للحدث وتفاعلا معه ، دون أن يكون لهما اختيار أو دخل في إيجاده ، وإذا صح ذلك يمكن اعتبار "الجدار" ،  "و زيد" و " الورقة" فواعل نحوية تركيبية فقط وليست فواعل دلالية  ، فهي فواعل تركيبية بموجب الموقع التركيبي :لكونها  تقع فقط  بعد الفعل ، كما أن هذه الفواعل يمكن اعتبارها مفعولات ، وهذا يعني أن أصل الجمل السابقة مثلا  هو كالتالي :

-         أسقط الرجل الجدار

-         أمات الله زيدا

-         مزق الطفل الورقة

       يتبين من خلال الأمثلة السابقة أن الموقع التركيبي لا يمكنه وحده أن يحدد الفاعل الحقيقي ، بل الأمر يقتضي الاستعانة بالدلالة للتمييز بين الفاعل الحقيقي والمفعول الحقيقي .وبمعنى أخر هناك تراكيب في اللغة العربية أو جمل ينظر إليها من منظور تركيبي ومن منظور دلالي ، كما يجب أن نميز بين مصطلحين أساسيين : فاعل حقيقي أو معنوي ، وفاعل نحوي أو تركيبي ، وما يقال عن الفاعل يقال عن المفعول .

وهناك أمثلة أخرى يسلك فيه الفاعل نفس السلوك السابق منها :

-         ابيض شعر الرأس

-         تفتح النور

     وقد وردت في القران الكريم تراكيب متعددة يسند فيها الفاعل إلى الفعل بينما يكون الفاعل فيها ليس فاعلا حقيقيا وإنما هو مفعول ومن ذلك قوله تعالى :

{اقتربت الساعة وانشق القمر

    إن النحاة القدماء بدورهم كانوا ينظرون إلى الكلام من منظور دلالي ، كما يؤكدون منظورهم الدلالي بإجراءات تركيبية فهم ينظرون مثلا إلى المثال الأتي:

-         مات زيد

من منظورين : تركيبي ودلالي :

أ: تركيبي ، وفي هذه الحالة يعتبرون" زيد "  فاعلا تركيبيا ، وهذا التفسير لا يدخل في الاعتبار إلا الوظيفة التركيبية .

ب:  أما المنظور الدلالي فيسمح لهم بتأويل الجملة السابقة كالتالي :

-          أمات الله زيدا

وفي هذه الحالة يكون زيد في الجملة السابقة مفعولا به في المعنى .

رابعا-  الإجراءات الصرفية ودورها في تحويل وظيفة  الفاعل إلى مفعول 

          نقصد بالإجراءات الصرفية التغييرات المرتبطة بالصيغة الصرفية،  وينتج عن هذه التغييرات الصرفية تأثيرات تركيبية ، فالانتقال من صيغة صرفية إلى أخرى يؤدي حتما  إلى الانتقال من بنية تركيبية إلى بنية تركيبية أخرى في الجملة نفسها.  فقد  تمكننا الإجراءات الصرفية على سبيل المثال من تحويل الفاعل إلى مفعول كما توضح  الأمثلة الآتية ذلك  :

            فرح الطالب

           أفرح الأستاذ الطالب

           فرح  الأستاذ الطالب

          جلس خالد

         جالس زيد خالدا

يتبين من خلال هذه الأمثلة أنه  كلما تغيرت بنية الفعل الصرفية تغيرت البنية من الناحية التركيبية ، وبموجب ذلك  يتحول الفاعل إلى مفعول به 

  وظيفة الفاعل والمفعول  في تركيب  المبني للمجهول

يقصد بالبناء للمجهول، في الأدبيات النحوية، كل جملة حذف منها الفاعل لغرض من الأغراض، وأقيم غيره مقامه مع تغيير شكل الفعل المبني للمجهول. وهناك من أطلق على هذه الظاهرة: بناء ما لم يسم فاعله، ومنهم ابن يعيش. والآليات التي يقوم عليها هذا البناء كما وردت في كتب النحاة هي كالتالي:

- تغيير صيغة الفعل من: فَعَل إلى فُعِل.

- حذف الفاعل من الجملة.

- إقامة المفعول أو غيره مقام الفاعل.

وهذا يعني أن البناء للمجهول يعتمد إجراءات ذات طبيعة صرفية وتركيبية تتمثل في تغيير الصيغة، وتبادل المواقع التركيبية ، حيث يحل المفعول أو غيره محل الفاعل، كما يتضح من المثال الموالي:

                         أ- كتب الولد الدرس

                         ب- كُتب الدرس

تم الانتقال من )أ( إلى )ب( عن طريق تغيير صوتي  لصيغة الفعل ، ثم حذف الفاعل وحل محله المفعول به.

إن الآليات الصوتية و الصرفية والتركيبية التي يعتمد عليها البناء لغير الفاعل، تتفاعل وتتكامل فيما بينها. إلا أن التكامل بين هذه الآليات إجباري. ذلك أن حذف الفاعل وإقامة المفعول مقامه لا يمكن أن يحدث بدون أن يجري تغيير إجباري على صيغة الفعل، لأن التغيير الصرفي لا يكفي لتفسير أية ظاهرة، بل لا بد من مراعاة التغييرات  التركيبية والدلالية التي تطرأ على البنية، حيث إننا ننتقل من )أ( إلى )ب( في المثال الآتي:

                     أ - كتب خالد الدرس.

                     ب- كُتب الدرس.

إلا أننا لا يمكن أن ننتقل من )أ( إلى )ج( مثلا كما يظهر من لحن البنية التالية :

                       ج- * كَتب الدرسُ.

إن لحن )ج( ناتج عن عدم إنهاء تطبيق جميع أطراف المعادلة الصرفية ، أي عدم تغيير الصيغة من )فَعلَ( إلى )فٌعِل( .

ولهذا التغيير الصرفي سبب تركيبي. فقد لاحظ محمد الحناش أن " نقل الصيغـة من )فَعل( إلى )فُعل( إجباري يفسره رياضيا غياب الفاعل عن البنية".

 

يتضح من كلام محمد الحناش أن الضمة في صيغة (فُعِل) تعتبر أثرا trace  للفاعل المحذوف، وهذا يعني أن الضمة في صيغة البناء للفاعل ليست حركة بسيطة وخالية من الدلالة، وإنما هي نتيجة عملية تضمير Pronominalisation يختزل فيها الفاعل الحقيقي :الدلالي إلى حركة يكون حضورها إجباريا عند تطبيق هذا البناء].

          

لا يخلو هذا الافتراض الذي تبناه محمد الحناش من قيمة علمية، ويبدو أن هناك ما يؤيد كون الفاعل لا يحذف، وإنما يختزل في الضمة  ذلك أن الفاعل يمتنع إبرازه في البنية مع حضور ما ينوب عنه، أي حركة الضمة الواقعة في فاء الكلمة.فهناك توزيع تكامليCOMPLEMENTARY DISTRIBUTION بين الفاعل والضمة . وبعبارة أخرى، لا يمكن أن نقول:

                                    - * كُتب الولد الدرسَ.

ففي هذا التركيب يتوارد الفاعل والضمة، التي تعتبر في هذا البناء حركة ليست بسيطة، مما نتج عنه بنية لاحنة. ولحن هذه البنية راجع بالأساس إلى توارد فاعل وما ينوب عنه، الذي هو الضمة.

      

          إذا صح هذا التحليل، فإن صيغة الفعل المبني للمجهول تكون صيغة مركبة، يتداخل فيها الحدث وصاحب الحدث، أي: الفاعل. وينتج عن هذا أن الفاعل لم يحذف، وإنما أضمر واختزل إلى ضمة.وهدا يعني أن الضمة لها أبعاد دلالية .

إن ما سيترتب عن هذا التحليل، هو أنه سيضيف ضميرا جديدا إلى ضمائر اللغة العربية، وبمعنى آخر ستصبح الضمة ضميرا. وهو افتراض يحتاج إلى دراسة معمقة للبرهنة على القيمة التضميرية للضمة.

الفاعل والمفعول ونظرية الأدوار الدلالية

  من الصعب الفصل بين التركيب والدلالة ، ذلك  أن الدلالة امتداد طبيعي للتركيب .

سنوضح  هذا الافتراض وندعمه من خلال مناقشتنا للعلاقة الموجودة بين الأدوار الدلالية والموضوعات التركيبية من خلال مستجدات النظرية التوليدية ونقصد  بذلك المقاربة الادنوية (تشومسكي 1998-1999  ) ، إذ سنناقش العلاقة الموجودة بين الأدوار الدلالية والموضوعات التركيبية بناء على بعض القيود التوليدية وسننطلق من قيد انطلق منه تشومسكي في أعماله الأولى وطوره في النظرية الادنوية ونقصد بذلك المقياس المحوري 

  يصوغ تشومسكي ( 1981)  المقياس المحوري كالتالي :

" كل موضوع ( Argument ) يأخذ دورا دلاليا واحدا فقط وكل دور دلالي يسند إلى موضوع واحد فقط " .

لنأخذ الجملة  الآتية :

قرأت الطالبة الرواية في المكتبة

تتضمن هذه الجملة محمولا هو الفعل ، وموضوعين هما : الطالبة والرواية .

ويحمل الموضوع الأول دور المنفذ ( Agent) والثاني دور الضحية

ولا يسند المحمول دورا دلاليا إلى المركب " في المكتبة " لأنه ملحقا وليس موضوعا .

لنتأمل الجملة الآتية :

قرأت الطالبة الرواية المكتبة ( لحن)

تعد هذه الجملة لاحنة لأنها تخرق القيد السابق ( المقياس المحوري ) ، ذلك أن المحمول قرأ استوفى شروطه المحورية أو الدلالية التي يسندها إلى

" الطالبة"و " الرواية " ، وبقي المركب " المكتبة بدون دور دلالي .

       ما يؤخذ على المقياس المحوري هو أن الحكم على سلامة البنية أو عدم سلامتها يأتي مؤخرا ، إذ لا يتنبأ بذلك في المرحلة التي يتم فيها ضم المكتبة إلى البنية التركيبية بل يؤجل الحكم إلى أن يصل الاشتقاق التركيبي الصورة المنطقية 

حيث ينطبق  القيد السابق

       أما في البرنامج الادنوي فقد أدمج تشومسكي ( 1998)- (1999) هذا القيد في عملية الضم الخالص pure merge التي أصبحت مقيدة بالانتقاء ، وعليه فإن الجملة اللاحنة السابقة ستقصى في المرحلة الأولى من اشتقاقها التركيبي ، بحيث لن يكون من الممكن ضم المكتبة إلى الفعل لأنه لا ينتقيها دلاليا ، ويمكن بلورة ذلك من خلال الضم الخالص الذي نصوغه بعد تشومسكي ( 1998) كالتالي :

" الضم الخالص في الموقع المحوري مقصور على الموضوعات فقط "

من هنا يمكن القول إن قيد المقياس المحوري أصبح قيدا محليا موضوعا على الاشتقاق التركيبي لا على التمثيل النحوي .

ما يشير إليه القيد السابق ( الضم الخالص ) هو أن الموضوعات لا يمكن ضمها إلا في المواقع المحورية ولا يمكن ضم غير الموضوعات إلا في المواقع غير المحورية ، وتعتبر هذه صياغة جديدة للمقياس المحوري ، ووظيفة هذه الصياغة الجديدة هي سرعة الحكم على سلامة الاشتقاق محليا قبل الانتهاء من اشتقاق الجملة بأتمها والوصول  إلى مستوى وجيهة الصورة المنطقية....