المقياس اصول النحو
الأستاذ عبد الغاني تريكي
مدخل/ النحو و أصول النحو
المصطلح و المفهوم
نشأ الدرس اللغوي عند العرب في رحاب القرآن الكريم لأن العلماء المسلمين توقفوا أمام الكتاب العزيز محاولين فهمه والتوصل إلى معانيه ،وهذا لا يتأتى إلا بدراسة اللغة الشريفة التي نزل بها . وكان من أهم علوم اللغة التي نشأت في كنف القرآن الكريم : علم النحو ناتجاًعن ضبط تلاوة القرآن الكريم وفهم معانيه وتنزيل أحكامه ، وهو في هذه النشأة كان من العلوم القرآنية كالتفسير والقراءات وغريب القرآن الكريم وما إلى ذلك . وقد انتبه الأوائل من العلماء المسلمين في القرن الأول الهجري إلى ثلاثة جوانب مهمة من اللغة ذات صلة وثيقة بالقرآن الكريم والحديث الشريف هي : 1- علم النحو2- رسم العربية 3- ونقط الإعجام - :
فالنحو ورسم العربية ونقط الإعجام إنما نشأت لضبط تلاوة القرآن وكتابته ،وفهم معانيه وقد نشأ قبل هذه العلوم اللغوية –التي هي آلة لضبط القرآن وفهمه – علم الفقه الذي هو: ( معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين ، فالوجوب والحظر والكراهة والندب ، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة ، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه ، وكان السلف من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم . . .)
وسبق الفقه علوم اللغة في النشأة ،مرجعه إلى أن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كانوا عرباً فصحاء ،والقرآن نزل بلسانهم والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بين ظهرانيهم فما كانوا في حاجة لعلوم اللغة نحواً أو رسماُ او إعجاماً .وكانت الأحكام الفقهية على عهده (صلى الله عليه وسلم ) يتلقاها الصحابة بما يوحى إليه من الفرآن ،ويبينه بقوله وفعله بخطاب شفاهي ولا يحتاج إلى نظر وقياس . ومن بعده ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الصحابة رضوان الله عليهم على سيرته وسننه متخذين القرآن الكريم والسنة المطهرة أصلين لتنزيل الأحكام في الحياة الاجتماعية ، ثم صار إجماعهم دليلا ًثالثاً وهم مع ذلك يقيسون الأشباه والأمثال بإجماع منهم وتسليم .
ولما جاء عهد التابعين اندرست الملكة اللسانية فاحتاج العلماء إلى القوانين اللسانية لمعرفة أحكام الله تعالى مستفيدين من إرث الصحابة في الاستدلال ، ولما ( انقلبت العلوم كلها صناعة كما قررنا من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه ، وكان أول من كتب فيه الشافعي...)
ولحاجة الأصوليين لقوانين اللغة خاصة علم النحو ،ولأجل هذا المنهج الذي كان في أيدي علماء أصول الفقه كانت بين النحاة والأصوليين صلة عمادها الفائدة العلمية التي يمكن أن تعود على علم اللغة وعلم الأصول ، وتعود أيضا على الدرس اللغوي عموما وعلى الدرس النحوي على الخصوص . هذا الاتصال الرائع الذي نشأ بين النحاة وعلماء أصول الفقه و كانت له ثماره الطيبة التي تبدت في تبادل التأثير والتأثر بين أصول الفقه وعلوم اللغة خاصة النحو في مصطلحات أحكامه كالوجوب والجواز والكراهة والحسن والقبيح .وفي عناية علمائه بالنصوص عند استقراء قواعده . وكان ذلك في ضوء القرآن الكريم والشواهد الشعرية .
وفي الجانب الآخر استفاد الأصوليون من أبواب النحو -أحياناً – في استخراج الحكم الشرعي من النص: ( القرآن الكريم ) و ( الحديث الشريف ) ولعل هذا قول الإمام الشافعي : ( ...لا أسأل عن مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد النحو ) .فالمستقرئ لتاريخ الفكر الإسلامي يجد اتصالاً رائعاً بين العلوم خاصة ما تعلق منها بالكتاب والسنة . وقد تجلى هذا الاتصال الرائع بين النحاة وعلماء أصول الفقه وكان من ثماره الطيبة ما يلي:
1- ظهور علم أصول النحو واشتراك أدلته مع أدلة أصول الفقه .
2- استعانة علماء أصول الفقه بأبواب النحو – أحياناً- في استخراج الحكم الشرعي من النص .
3- أخذ النحاة بعض أصول الفقه في مؤلفاتهم كالقياس وأنوعه وأحكامه .
4- رؤية بعض الأصوليين وجوب معرفة اللغة والنحو والتصريف لأن معرفة الأحكام الشرعية متوقفة على معرفة الأدلة ، ومعرفة الأدلة متوقفة على معرفة اللغة والنحو والتصريف .
مفهوم الأصول:
الأصول جمع أصل ، والأصل لغة :أسفل الشئ ، فأصل الحائط أساسه ، وأصل الشجرة جذرها ، واستأصل الشئ ثبت أصله وقوي ، ثم كثر حتى قيل أصل كل شئ : ما يستند وجود ذلك الشئ إليه . فالأب أصل الولد ، والنهر أصل الجدول . ومن ذلك قولهم : قعد في أصل الجبل وأصل الحائط ، وفلان لا أصل له ولا فصل ، أي لا نسب له ولا لسان . هذا معنى الأصل في اللغة وتلك دلالته ،أما معنى الأصل ، ومفهومه ، ودلالاته في الاصطلاح فيمكن بيانه فيما يلي :
1- الأصل يطلق على الراجح بالنسبة للمرجوح .
2- ويطلق على القانون والقاعدة، والقانون المناسب المنطبق على الجزئيات
3- ويطلق على الدليل بالنسبة للمدلول .
4- ويطلق على حمل المفهوم الكلي الموضوع على وجه كلي بحيث تندرج فيه أحكام جزءياته .
5- ويطلق على ما ينبني عليه غيره .
6- ويطلق على ماهو الأولى كمايقال : الأصل في الإنسان العلم والأصول من حيث إنها مبنى وأساس تفرعها سميت قواعد .ومن حيث إنها مسالك سميت مناهج ، ومن حيث إنها علامات لها سميت أعلاماً ، والأصول تتحمل ما لا تتحمله الفروع ، وتراعى ويحافظ عليها وقد دار البحث الفقهي واللغوي في كثير من القضايا والأحكام والجزئيات على قاعدة الأصل الذي يرد إليه الفرع أو يقاس عليه أو يرجع إلى حكمه ومن أمثلة ذلك في الفقه قولهم :(الأصل في الدين الأخلاق ) وقولهم أيضاً : الأصل في العرف الشرعي أن يكون على وفق العرف العادي (15) ومن أمثلته في اللغة قولهم : الأصل في الأسماء التنكير والتذكير والصرف وقولهم أيضاً : الأصل في الأفعال التصريف وهكذا يجري الأمر.
ومما سبق توضيحه من مفهوم الأصول في اللغة وفي الاصطلاح يمكن حصر دلالة مصطلح الأصول في خمسة المفاهيم التالية : -
1- القواعد الكلية والقوانين العامة التي تنطبق على فروع وجزئيات .
2- المناهج التي تتبع وتسلك في الوصولل إلى الجزئيات والفروع .
3- العلامات الدالة دلالة واضحة على ما تفرع وتجزأ منها.
4- المفاهيم الكلية المندرجة فيها أحكام جزئيات موضوعها .
5- الأسس التي يبنى عليها غيرها من الفروع والأحكام والقواعد .
وقد سبق الفقهاء النحاة منذ أوخر القرن الثاني الهجري إلى تدوين أصول للفقه تستخرج وفقها الأحكام الشرعية وقد قرروا على أساس منها مناهج الإستنباط وضوابط الاجتهاد .
هذه الأصول كانت موجودة مركوزة راسخة في عقول الصحابة (رضون الله عليهم ) وعقول علماء التابعين غير أن الحاجة قد دعت إليها بعد ذهاب الصدر الأول وانقلاب العلوم إلى صناعة ، يقول ابن خلدون في ذلك : (... وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررنه من قبل احتاج الفقها والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانيين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه ، وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله عنه ... )
إذن كانت أصول الفقه مبثوثة في التطبيق العملي لاجتهاد الصحابة والتابعين إلى أن جمعها الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة ). تلك الأصول هي أدلة الأحكام الشرعية ، وقد اتفق جمهور الفقهاء على أربعة من تلك الأصول هي : القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة ، والإجماع ، والقياس مرتبة هذا الترتيب وفق الأهمية .
ماهية أصول النحو:
نشأ النحو في كنف القرآن الكريم باعتباره واحداً من علوم القرآن التي اتجهت لخدمة القرآن الكريم وحفظه من عوادي الفتنة حينا كما هو الحال في توحيد القرآن في مصحف الخليفة الراشد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وحفظه أيضاً من مخاطر اللحن لأن الخط العربي الذي كتب به المصحف الإمام يومئذ كان خاليا من نقط الإعراب ونقط الإعجام ، فكان وضع نقط الإعراب على يدي أبي الأسود الدؤلي عملاً نحوياً يهدف إلى ضبط قراءة القرآن وتلاوته وحفظه من التصحيف ، والإعانة على تنزيل أحكامه في واقع الناس ، وقد تجلى هذا في عمل أبي الأسود الدؤلي الذي وضع نقط الإعراب وكان هذا مبدأ الدراسة النحوية التي تبحث في أسباب نقط الإعراب (الحركات) وعللها ، مما أدى لظهور القياس والسماع حتى تكاملت أصول النحو .
فأصول النحو مثل أصول الفقه كانت راسخة في عقول النحاة الأول مثل : السماع ، والإجماع ، والقياس ، واستصحاب الحال .
ومفهوم الأصول عند النحاة يتجه إلى أنها : أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وفصوله ، كما أن أصول الفقه هي أدلة الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله .
وعليه يمكن القول : إن تلك الأصول أو الأدلة التي جرت الإشارة إليها كانت موجودة عند الأوائل من النحاة متجسدة في أقوالهم وأعمالهم قبل أن تفرد بالبحث والدرس في مؤلفات علمية مستقلة. كان العلماء الأوائل من النحاة يستخدمونها في التعرف على قواعد التركيب النحوي للجملة العربية ، فالقياس مثلاً استخدمه النحاة في توجيه الآراء وحسم الخلافات وتخريج الشواهد ، قبل أن يبحثوا في تعريفه وأركانه وطرق استخدامه ، ومثل هذا يمكن أن يقال في الفقه ، إذ نجد فقهاء الصحابة وكبار التابعين قد استخدموا القياس والسماع والاجماع قبل أن يبحثوا في مفهوم السماع أو القياس أو الإجماع ، إذ كانت هذه الأدلة راسخة في عقولهم إذ تدربوا عليها عمليا في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وتلقنها عمليا منهم كبار التابعين إلى أن جمعها الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة )، وحّدها وعرّفها ثم جرى البحث النظري فيها .
دور الأصول في بناء النحو العربي وترسيخ منهجه :
العلوم عند المسلمين مستفادة من الحواس ومن العقول وهو ماعرف في تاريخنا الثقافي باسم السماع ، والقياس ، وقد كان علم أصول الدين فيما يبدو أول العلوم التي اتخذت من السماع والقياس وما حمل عليها منطلقات منهجية في البحث والتنظير ، ثم لما نشأ علم النحو- وكان من العلوم القرآنية – قلد النحاة علماء أصول الدين فاستعاروا منهم هيكل علم أصول الفقه ليكون أساساً لهيكل نظري لعلم النحوخاصة السماع والقياس وما تعلق بهما .
والسماع والقياس أصلان منهجيان عامان في العلوم الإسلامية العربية كلها تقريباً ، وهما بذلك غير قادرين على التعبير عن خصوصية أي علم باستثناء علم الفقه الذي تطور فيه هذان الأصلان وما تبعهما من أصول ، إذ وضعت لمنهج الأصول في الفقه أسس ، وضوابط ، وقواعد ، أصولية توضح كل أصل وتضبط شروطه ، بل إن الفقهاء الأصوليين كتبوا فيها دراسات مختلفة بحثت جوانبها المنهجية ومنطلقاتها التأسيسية بحيث لم يتركوا مجالاً لمتزيد مع توفر قدر كبير من الموضوعية وقدر تام من العلمية .
أما النحو فما كتب في علم أصوله، فقليل واتكأ أصحابه فيه على ما وجدوه في علم أصول الفقه ومن لم يكتبوا في علم أصول النحو ساروا على الطريقة المنهجية القائمة على السماع والقياس والاستصحاب والإجماع وغيرها من الأصول.
إذن وظف النحاة ما وجدوه من أصول عند الفقهاء وتأثروا بطرقهم في الاستنباط ، والقياس، والحمل ، وتعدية الحكم في استخراج قواعد النحو ، وتقعيدها وطردها وتنزيل الأمثلة والتطبيقات والتمارين عليها ، فكان النحو عندهم – وما زال – قائما على ركنين أساسيين هما :
أ- القواعد: وهي كليات أو شبه كليات مطردة استخرجت بالاسنقراء من المادة اللغوية الموثوقة التي جمعها الرواة والنقلة من الأعراب والبوادي وممن يوثق بعربيته وفق شروط السماع وطرق النقل بها في مجال الحديث والقواعد وسائل لتوجيه الصواب في التعبير تكلماً وكتابة ، وأحكامها تعليمية تستند إلى اللغة باعتبارها نقلاً يحافظ على استمرار اللغة حية متداولة بين أبنائها . وهي جزء لا يتجزا من نسيج اللغة ، وهو الضابط لخواصها المرشد إلى كيفيات توظيفها . هذه القواعد تسري في جسم اللغة ولا تنفك عنها وهي التي تستحق اسم علم النحو .
ب- التقعيد :وهو منهجية النحو وقاعدته القائمة على أصوله كالسماع والقياس ، والاستصحاب ، والإجماع ، والاستحسان ، وغيرها . فأصول النحو في التقعيد تجسد نظرية النحو ومناهجه العلمية التي تعد وسائل لإنتاج القواعد باستقراء المادة الموثوقة المسموعة مثلا :من قواعد الفاعل : أنه مرفوع وأنه يتأخر عن فعله ، وأنه اسم وما كان في حكم الاسم فهذه القواعد استخدمت باستقراء المادة اللغوية المسموعة التي جمعت بوثاقة ثم بعد ذلك، كل بحث يدور حول هذه القواعد بالتعليل والتفسير أو التعدية يعد من التقعيد وهو العمل المنهجي الذي تنهض به الأصول كالقياس والاستصحاب وما إليها .
والتفريق بين القواعد والتقعيد يشير إلى وجود نوعين من المشتغلين بالنحو ، أحدهما ينتمي إلى القاعدة يحفظها ويقيس عليها ويعلمها وهذا يسمى معرب . والثاني نحوي يعرف قواعد النحو ويعرف أصول تقعيدها وله القدرة على التفريق بين القاعدة الكلية والقاعدة الجزئية . فالمعرب يعرف القواعد ويعلمها ويطبقها ، وهو في هذه الحال يشبه الفقيه .والنحوي يعرف القواعد ويفرق بين جزئيها وكليّها ويعرف أصول تقعيد تلك القواعد وهو في هذه الحال يشبه الأصولي الذي يعرف أصول الأحكام وأدلتها . وخلاصة القول في هذا المبحث هو أن الأصول قد انبنى عليها النحو العربي ، وفق الخطوات الآتية :
أولاً: استخدم اللغويون أصل السماع في جمع المادة وتوثيقها وفق شروط السماع والنقل المحددعندهم ، ثم استقرأوا تلك المادة اللغوية الموثوقة فاستخرجوا منها القواعد الكلية التي يسري مفعول الواحدة منها في الباب كله مثل : كل فاعل مرفوع ، وكل مفعول منصوب وكل مضاف إليه مجرور . واستخرجوا أيضاً القواعد الجزئية أو الفرعية التفصيلية التي تختلف في شيئ ما من صفاتها عن القاعدة الكلية ثم تعود إليها بضرب من ضروب التفسير الذي يعتمد على التعليل والتأويل والاستصحاب والتخريج .
ثانياً:استخدام القياس في طرد القواعد الكلية وتعديتها إلى الأمثلة والاحتجاج لها بالشاهد المنتزع من المادة المسموعة كآي القرآن الكريم ، ونصوص الحديث الشريف ، وشعر العرب الذين يعتد بعربيتهم ، وكذلك نثرهم ، واستخدموه في حمل لفظ على لفظ وتعدية حكم أصل إلى فرع ، كما استخدموا التعليل في تفسير الأحكام وتقعيدها .
ثالثاً: تقديم القواعد ثم تعريفها وتحديدها بحد جامع مانع . ويلي ذلك شرحها وتحليلها وإيراد أمثلة وشواهد وتعليلات بغرض تفهيمها ثم تطبيقها بغرض الحفاظ على سلامة اللغة .