المحاضرة الثالثة: عملية تنفيذ السياسة العامة
سنعرض من خلال هذه المحاضرة عملية تنفيذ السياسات العامة ومختلف المراحل التي تمر بها، مع توضيح الجهات المعنية بتنفيذ السياسة العامة، ومستلزمات التنفيذ.
أولا: التعريف بمفهوم تنفيذ السياسة العامة.
إن تنفيذ السياسة العامة يمكن تعريفه من خلال استحضار عدد من التعاريف والأفكار التي تناولها بعض الكتاب المهتمين بهذا المصطلح أو المفهوم كما نوضحه أدناه:
- إنه يتمثل بمجموع النشاطات أو الإجراءات التنفيذية الهادفة لإخراج السياسة العامة أو قراراتها إلى حيز الواقع العملي، ويقوم على استخدام المصادر والموارد البشرية والمادية والتكنولوجية وغيرها، في سبيل تحقيق مقاصد السياسة العامة.
- إن تنفيذ السياسة العامة، هو عملية لوضع الأفعال والإجراءات وجعلها فاعلة ومؤثرة من قبل أفراد القطاعين العام والخاص، من خلال المشاهد التطبيقية والممارسات العملية التي تدل على العمليات ضمن البرامج أو المشروعات، التي دعت إليها السياسة العامة، بالشكل الذي يؤكد قدرة الإدارة العامة على الإجراء والإنجاز لأهدافها.
- إن تنفيذ السياسة العامة يعني: تنفيذ الأوامر الشرعية للسياسة من خلال البرامج العامة والإجراءات، وعادة ما يعبر ذلك التنفيذ عن منجزات البيروقراطية الحكومية وعن مهاراتها الأدائية، على الرغم من أن بعض السياسات العامة، قد تتطلب التعاون بين دوائر الدولة المركزية والمحلية والأفراد والجهات الأخرى من خارج الحكومة.
- إن تنفيذ السياسة العامة هي تلك المجموعة من الأفعال التي تتمثل بالجهود العامة الخاصة للأفراد والجماعات، والموجهة نحو تحقيق وانجاز الأهداف المرسومة مقدما في قرارات السياسة العامة مسبقا.
- إن تنفيذ السياسة العامة، هو خطوات ضرورية تسهم في تحويل السياسة إلى أعمال ذات تأثير.
إن تلك التعريفات العديدة تؤكد أن السياسة العامة، توجه نحو أهداف وغايات معينة، وتقتضي عملية تحقيق هذه الغايات أو الأهداف إيجاد عملية متكاملة لأغراض التنفيذ والتطبيق، ما يجعلنا ننظر إلى عملية تنفيذ السياسة العامة، بأنها العملية الأكثر حقيقة والأكثر واقعية، لأنها تتعامل مع قضايا ملموسة ومع إمكانيات وموارد قائمة وموجودة على أرض الواقع، وهي المهمة الأساسية التي تتولاها المنظمات والأجهزة الإدارية، وبكل بساطة فإن عملية تنفيذ السياسة العامة، هي تلك العملية اللازمة في جعل السياسة العامة مثالا حيا للعمل والأداء، وتحويلها من حالتها الإعلانية كقرار، إلى حالتها الميدانية كعمل تنفيذي، وعلى هذا الأساس تتضمن تلك العملية وتستغرق جميع الحدود أو المساحة الفاصلة بين إعلان السياسة، وبين تأثيرها الحقيقي، والتغيير الفعلي عما يحصل في الحقيقة، وعما يحصل من جهد وأداء، وما ينجم عنه من رأي وتغذية راجعة، في إطار ومحيط المنظمات والأجهزة الإدارية التنفيذية المعنية بأعمالها ومهامها اللازمة.
ثانيا: الجهات المعنية بتنفيذ السياسات العامة:
بشكل مركز فإن النظم الإدارية ذات الطبيعة المتنوعة والمؤلفة في كل منها من وحدات إدارية متعددة، هي التي تضطلع من حيث المبدأ والمسؤولية بمهمة تنفيذ السياسة العامة، إذ يتولى نظام إداري معين، ومن خلال وحدات العمل الحكومية اليومية المرتبطة به، العمل على تنفيذ توجيهات وقرارات السياسة العامة، وما يتعلق بحياة المواطنين في المجتمع وقضاياهم وتنظيم أحوالهم ومعاشهم.
وتترجم الوحدات الإدارية والأجهزة الفرعية القائمة في المجتمع والبيئة، هذا العمل من خلال تخصصاتها والأنشطة الموزعة عليها في إطار الصلاحيات والمسؤوليات الممنوحة لها جغرافيا وفي إطار حدود المكان والبيئة والإمكانيات المتاحة لها، وإلى جانب هذا، فإن الأجهزة الإدارية يتسنى لها العمل والتحرك بصورة واسعة ومرنة، لكونها تمارس مهامها في ظل قوانين عامة أحيانا، وغامضة أحيانا أخرى، وفي ظل قواعد عامة مطلقة، تمكن تلك الأجهزة الإدارية من العمل وإصدار السياسات العامة التنفيذية والقرارات المطلوبة في التنفيذ، بشكل غير جامد، ومرد هذا يعود إلى أن المشرعين لا يحبذون الدخول في التفاصيل، وإنما يتركونها للإدارات لكونها الأدرى والأعلم ولها الخبرةّ، بوصفها إدارة متخصصة، ما يجعلها متمتعة بصلاحيات واسعة لأغراض التنفيذ، وعلى الرغم من هذا فإنه إلى جانب الأجهزة الإدارية المعنية أصلا بتنفيذ السياسات العامة، هناك جهات أخرى معنية تساهم في عملية التنفيذ، وهذا ما سوف نوضحه بشكل مجتمع، من منطلق أن السياسة العامة تصنع مثلما تنفذ، وأنها يتم تشريعها في ضوء الإمكانية في تطبيقها، وأنها أيضا يتم تطبيقها في ضوء عملية تشريعها أو صنعها، ما يعكس حالة التأثر المتبادل في السياسة العامة صنعا وتنفيذا.
وفيما يأتي توضيحا لأهم الجهات المعنية بتنفيذ السياسات العامة، سواء كانت جهات معنية أصلا بالتنفيذ، أو جهات لها تأثير مباشر أو غير مباشر في تلك العملية.
1- المشرعون:
بوصفهم صناع السياسات العامة، فإنهم كأعضاء في السلطة التشريعية، يؤثرون على التنفيذ الإداري، ويضغطون على الإدارة العامة بطرق عديدة، يمكن تحديد مساراتها ومبرراها حسب ما يلي:
- كلما كانت اللوائح والقوانين المصادق عليها من قبل المشرعين تفصيلية، تقلصت الصلاحيات التي تتمتع بها الإدارة، مثل التدوين التحريري للوائح والقيود على صرف المبالغ المخصصة للإدارة، وهذا يمثل تأثيرا عليها.
- إن اللجان الفرعية والتخصصية التابعة للمشرعين أو للسلطة التشريعية، التي تتولى مراجعة اللوائح والعمل الإجرائي إزاء الطريقة التي تعتمدها الإدارات في تطبيق تلك اللوائح، تعتبر عاملا هاما في التأثير على أعمال الإدارة العامة وتنفيذها لمهامها.
- إن الإعتمادات المالية السنوية للإدارات، وكذلك مساعي الإدارة العامة في إعادة تنظيم أجهزتها وبناء هياكلها، كل ذلك يعتمد على موافقة السلطة التشريعية، التي يكون عملها في هذه الحالة مندرجا في مهمات ذات اختصاصات تنفيذية واضحة.
2- القضاء أو المحاكم:
بوصفها جهات معنية أيضا بصنع السياسات العامة، فإن كثيرا من أجهزة القضاء والمحاكم في النظم السياسية اليوم، تقوم بالأداء التنفيذي من خلال وحدات ودوائر إدارية، تتمتع بسلطة إجراء التحقيقات، والاستماع إلى الشهادات، وتطبيق اللوائح القانونية، سواء كانت تلك الوحدات على شكل هيئات مستقلة، أو كانت جزءا من الإدارات العامة العادية، كما أن الإجراءات القضائية موجهة بالأساس للكشف عن التلاعبات والانحرافات والتجاوزات الحاصلة في حقل الإدارة العامة وفي أجهزتها المعنية، وقيامها بالتعسف في تطبيق اللوائح والقوانين، والخروج عن ضوابطها في الأداء والتنفيذ، وهذا كله يعتبر تأثيرا مباشرا على الأداء الإداري، وتمثل وظيفة أو منصب الرقيب الحكومي أو الإداري أو المفوض البرلماني، أو المحقق العام أو رجل العدالة، الأسلوب البارز في قيام القانون بالسيطرة على الإدارة البيروقراطية الحكومية، وكشف انحرافاتها، وما يمكن أن تلحقه بالمواطنين والمجتمع من أذى.
وإلى جانب كل هذا، يبرز دور المحاكم وأجهزة القضاء، من خلال تفسير الأحكام والنصوص القانونية، والضوابط، ومراجعتها للقرارات الإدارية المرفوعة إليها من قبل جهاتها المعنية، بحيث يغدو رأي المحاكم والقضاء، إما متجاوبا أو معرقلا أو مبطلا لبعض السياسات الإدارية والقرارات التنفيذية، من خلال أحكام القضاء وقرارات المحاكم الصادرة نحوها.
3- مجموعات الضغط:
وهذه تمثل جهة قوية من الممثلين المؤثرين في عملية تنفيذ السياسة العامة، وقد تم الإشارة إلى أن مجموعات الضغط تمثل قوى خارجية تحاول الضغط على سياسات الإداري والمنفذ، ودفعه نحو اتخاذ سياسات تتفق مع مصالحها الشخصية، مثل الضغوط التي توجهها جماعات المصالح الصناعية إلى الأجهزة الإدارية والحكومية بطريقة تتلاءم مع الأهداف الصناعية لجماعاتها المصلحية.
هذا وإن عملية التنفيذ ممكن أن تشجع أصحاب المصالح والناخبين، على التدخل في القرارات الإدارية، بطريقة قد تدعم أهداف الأجهزة الإدارية أيضا، إن النظام السياسي المفتوح تحظى فيه الأجهزة الإدارية بالمصدر الحيوي للقوة، من خلال قدرتها على جذب دعم المجموعات الخارجية، لأن قوة جمهور الناخبين تشكل مصدرا كثير الأهمية عند الإداريين والإدارة، كما تشكل مصدر للنجاح عندهما.
إن تحالف القوى الضاغطة مع الإدارة يجعل العناصر القوية من الأفراد، مؤثرين في عملية التنفيذ وفي نشاطاتها ومخرجاتها، التي تكون محط اهتمام جماعات المصالح والضغط والبيئة الاجتماعية.
وتكون الجماعات الضاغطة والمصلحية مشتركة بالإدارة بصورة مباشرة، حينما يكون التمثيل لمصالح معينة محددا في مجلس إدارتها بموجب مقتضيات المصلحة واللوائح التنظيمية، مثل مجلس الإدارة الذي يضم المهنيين المجازين الذين يمثلون مصالح ذوي المهن بأكثر من المصلحة العامة.
4- وسائل الإعلام:
وتمثل قوى ذات مقدرة على ممارسة فاعلية هائلة إزاء عملية تنفيذ السياسة العامة والتأثير عليها، حيث يمكن لوسائل الإعلام المختلفة والصحافة خصوصا، أن تقوم بدور ايجابي يسهم في جعل المنفذين مطمئنين لأساليبهم العملية والتنفيذية بطريقة مختلفة مثل:
- بث التقارير المزيفة، ونشر المعلومات المضخمة حول انجازات البرامج الإدارية التي تجعل المنفذ يميل إلى غش العامة من الناس، أو الأعلى منه درجة ووظيفة.
- تستطيع الصحافة إعطاء إنذار مبكر حول الصعوبات التي تواجه البرامج الإدارية، بالشكل الذي يمنح فرصة للمنفذين لإجراء التعديلات والتحسينات وإخفاء الصعوبات.
- يمكن للصحافة أن تشيد بالإنجاز التشريعي، في سبيل الحصول على الدعم الكافي الذي يتطلبه نجاح البرامج التنفيذية.
ونتيجة لتأثير وسائل الإعلام في عملية تنفيذ السياسة العامة، يبحث العديد من المنفذين عن الجهد الواسع لأجل بناء تصور إعلامي قوي يعزز مهمتهم التنفيذية ويحافظ على استمرارية وجودها في البيئة والمجتمع، وبالمقابل فإن وسائل الإعلام والصحافة، يمكن أن تعمل على تعقد عملية تنفيذ السياسة العامة، وتحت ظروف معينة، يمكن أن تصبح مؤثرة على الأداء وبشكل مثير للاستفهام.
وعليه فإن للصحافة ووسائل الإعلام خدمة هامة فيما يختص بتنفيذ السياسة العامة، فهي تخدم كمراقب لتطبيق السياسة العامة، ولها مع ذلك تأثير مباشر على نتائج الجهود التنفيذية ومخرجاتها.
5- الوسطاء:
وهؤلاء مجموعة من الأشخاص أو الجماعات، الذين تناط بهم مسؤولية معينة، من قبل المسؤولين التنفيذيين، لغرض تنفيذ السياسات العامة، وقد يتمثل أولئك الوسطاء ببعض الموظفين المحليين، بوصفهم ممثلين رسميين في التنفيذ، ويخدمون ضمن هذه الصفة الرسمية في التنفيذ بطريقتهم الخاصة، يمكن أن تستفيد منهم الغدارة العامة أو الحكومة، في تنفيذ السياسة العامة.
وهذا يشير إلى الطريقة التي يمكن أن تكون فيها أساليب الوسيط ذات منفعة لعملية التنفيذ، من خلال سرعة تفويض السلطة من قبل الحكومة والغدارة العليا للوسطاء المحليين أو غيرهم، في سبيل تنفيذ البرامج اليومية للحكومة المركزية بالشكل الذي يجعل من الحكومة مرتبطة بدرجات متنوعة في تقرير الأوليات وتوضيح الأهداف، وتحديد طبيعة العملية التنفيذية، عبر القرارات التي تعمل ضمن المستويات المحلية أو المركزية، والسيطرة أو مراقبة البرامج والمشروعات ومن ثم تقويمها، وينبغي تنسيق عمل الوسطاء من خلال إقامة سلسلة اتصالات واضحة ولا يمكن أن تكون ذات آليات مشوشة، أو باعثة على قيام التعارض، كما أن توظيف الوسطاء من القطاع الخاص، قد يأتي للحصول على تنظيم أكثر انتشارا في التوزيع للخدمات الاجتماعية، من خلال التعاقد مع وسطاء لتقديم خدمات النقل أو الشحن مثلا، أو خدمات الرعاية الصحية في المتشفيات الخاصة، وغير ذلك ما يؤكد في النهاية أن عملية تنفيذ السياسات العامة، تكتسب وضعيتها الشمولية من خلال ارتباطها وتعقيداتها التي تشمل الأطر التنظيمية، على المستوى المركزي، وعلى المستوى المحلي، فضلا عن المستوى ضمن القطاع الخاص، وبالتالي التطور في آليات الإذعان ووسائل فرض الأوامر والالتزام بالنواحي التنفيذية للقرارات التشغيلية نحو الأهداف المطلوبة.
ومما تقد تتضح القدرة التأثيرية للجهات المعنية والمؤثرة في عملية تنفيذ السياسة العامة، وليس الأمر متوقفا عند تلك الجهات التي جرى التطرق لها، وإنما يتوقف عدد ونوع وطبيعة تلك الجهات، على حقيقة النظام السياسي، وعلى درجة المشاركة ونطاقها المعمول به في هذه السياسات العامة أو في غيرها، استنادا إلى متطلباتها التنفيذية وطبيعتها التخصصية، التي تفرض التزاما معينا وتوفيرا محددا للإمكانيات والوسائل والموارد، كما تتطلب ظرفا موقفيا محسوبا في أبعاده الزمانية والمكانية والبيئية والمجتمعية، إلى جانب الحفاظ على مقاصد وأهداف السياسة المعبرة عن توجهات وفلسفة النظام السياسي القائم في الدولة والمجتمع.
المحاضرة الثالثة: عملية تنفيذ السياسة العامة
سنعرض من خلال هذه المحاضرة عملية تنفيذ السياسات العامة ومختلف المراحل التي تمر بها، مع توضيح الجهات المعنية بتنفيذ السياسة العامة، ومستلزمات التنفيذ.
أولا: التعريف بمفهوم تنفيذ السياسة العامة.
إن تنفيذ السياسة العامة يمكن تعريفه من خلال استحضار عدد من التعاريف والأفكار التي تناولها بعض الكتاب المهتمين بهذا المصطلح أو المفهوم كما نوضحه أدناه:
- إنه يتمثل بمجموع النشاطات أو الإجراءات التنفيذية الهادفة لإخراج السياسة العامة أو قراراتها إلى حيز الواقع العملي، ويقوم على استخدام المصادر والموارد البشرية والمادية والتكنولوجية وغيرها، في سبيل تحقيق مقاصد السياسة العامة.
- إن تنفيذ السياسة العامة، هو عملية لوضع الأفعال والإجراءات وجعلها فاعلة ومؤثرة من قبل أفراد القطاعين العام والخاص، من خلال المشاهد التطبيقية والممارسات العملية التي تدل على العمليات ضمن البرامج أو المشروعات، التي دعت إليها السياسة العامة، بالشكل الذي يؤكد قدرة الإدارة العامة على الإجراء والإنجاز لأهدافها.
- إن تنفيذ السياسة العامة يعني: تنفيذ الأوامر الشرعية للسياسة من خلال البرامج العامة والإجراءات، وعادة ما يعبر ذلك التنفيذ عن منجزات البيروقراطية الحكومية وعن مهاراتها الأدائية، على الرغم من أن بعض السياسات العامة، قد تتطلب التعاون بين دوائر الدولة المركزية والمحلية والأفراد والجهات الأخرى من خارج الحكومة.
- إن تنفيذ السياسة العامة هي تلك المجموعة من الأفعال التي تتمثل بالجهود العامة الخاصة للأفراد والجماعات، والموجهة نحو تحقيق وانجاز الأهداف المرسومة مقدما في قرارات السياسة العامة مسبقا.
- إن تنفيذ السياسة العامة، هو خطوات ضرورية تسهم في تحويل السياسة إلى أعمال ذات تأثير.
إن تلك التعريفات العديدة تؤكد أن السياسة العامة، توجه نحو أهداف وغايات معينة، وتقتضي عملية تحقيق هذه الغايات أو الأهداف إيجاد عملية متكاملة لأغراض التنفيذ والتطبيق، ما يجعلنا ننظر إلى عملية تنفيذ السياسة العامة، بأنها العملية الأكثر حقيقة والأكثر واقعية، لأنها تتعامل مع قضايا ملموسة ومع إمكانيات وموارد قائمة وموجودة على أرض الواقع، وهي المهمة الأساسية التي تتولاها المنظمات والأجهزة الإدارية، وبكل بساطة فإن عملية تنفيذ السياسة العامة، هي تلك العملية اللازمة في جعل السياسة العامة مثالا حيا للعمل والأداء، وتحويلها من حالتها الإعلانية كقرار، إلى حالتها الميدانية كعمل تنفيذي، وعلى هذا الأساس تتضمن تلك العملية وتستغرق جميع الحدود أو المساحة الفاصلة بين إعلان السياسة، وبين تأثيرها الحقيقي، والتغيير الفعلي عما يحصل في الحقيقة، وعما يحصل من جهد وأداء، وما ينجم عنه من رأي وتغذية راجعة، في إطار ومحيط المنظمات والأجهزة الإدارية التنفيذية المعنية بأعمالها ومهامها اللازمة.
ثانيا: الجهات المعنية بتنفيذ السياسات العامة:
بشكل مركز فإن النظم الإدارية ذات الطبيعة المتنوعة والمؤلفة في كل منها من وحدات إدارية متعددة، هي التي تضطلع من حيث المبدأ والمسؤولية بمهمة تنفيذ السياسة العامة، إذ يتولى نظام إداري معين، ومن خلال وحدات العمل الحكومية اليومية المرتبطة به، العمل على تنفيذ توجيهات وقرارات السياسة العامة، وما يتعلق بحياة المواطنين في المجتمع وقضاياهم وتنظيم أحوالهم ومعاشهم.
وتترجم الوحدات الإدارية والأجهزة الفرعية القائمة في المجتمع والبيئة، هذا العمل من خلال تخصصاتها والأنشطة الموزعة عليها في إطار الصلاحيات والمسؤوليات الممنوحة لها جغرافيا وفي إطار حدود المكان والبيئة والإمكانيات المتاحة لها، وإلى جانب هذا، فإن الأجهزة الإدارية يتسنى لها العمل والتحرك بصورة واسعة ومرنة، لكونها تمارس مهامها في ظل قوانين عامة أحيانا، وغامضة أحيانا أخرى، وفي ظل قواعد عامة مطلقة، تمكن تلك الأجهزة الإدارية من العمل وإصدار السياسات العامة التنفيذية والقرارات المطلوبة في التنفيذ، بشكل غير جامد، ومرد هذا يعود إلى أن المشرعين لا يحبذون الدخول في التفاصيل، وإنما يتركونها للإدارات لكونها الأدرى والأعلم ولها الخبرةّ، بوصفها إدارة متخصصة، ما يجعلها متمتعة بصلاحيات واسعة لأغراض التنفيذ، وعلى الرغم من هذا فإنه إلى جانب الأجهزة الإدارية المعنية أصلا بتنفيذ السياسات العامة، هناك جهات أخرى معنية تساهم في عملية التنفيذ، وهذا ما سوف نوضحه بشكل مجتمع، من منطلق أن السياسة العامة تصنع مثلما تنفذ، وأنها يتم تشريعها في ضوء الإمكانية في تطبيقها، وأنها أيضا يتم تطبيقها في ضوء عملية تشريعها أو صنعها، ما يعكس حالة التأثر المتبادل في السياسة العامة صنعا وتنفيذا.
وفيما يأتي توضيحا لأهم الجهات المعنية بتنفيذ السياسات العامة، سواء كانت جهات معنية أصلا بالتنفيذ، أو جهات لها تأثير مباشر أو غير مباشر في تلك العملية.
1- المشرعون:
بوصفهم صناع السياسات العامة، فإنهم كأعضاء في السلطة التشريعية، يؤثرون على التنفيذ الإداري، ويضغطون على الإدارة العامة بطرق عديدة، يمكن تحديد مساراتها ومبرراها حسب ما يلي:
- كلما كانت اللوائح والقوانين المصادق عليها من قبل المشرعين تفصيلية، تقلصت الصلاحيات التي تتمتع بها الإدارة، مثل التدوين التحريري للوائح والقيود على صرف المبالغ المخصصة للإدارة، وهذا يمثل تأثيرا عليها.
- إن اللجان الفرعية والتخصصية التابعة للمشرعين أو للسلطة التشريعية، التي تتولى مراجعة اللوائح والعمل الإجرائي إزاء الطريقة التي تعتمدها الإدارات في تطبيق تلك اللوائح، تعتبر عاملا هاما في التأثير على أعمال الإدارة العامة وتنفيذها لمهامها.
- إن الإعتمادات المالية السنوية للإدارات، وكذلك مساعي الإدارة العامة في إعادة تنظيم أجهزتها وبناء هياكلها، كل ذلك يعتمد على موافقة السلطة التشريعية، التي يكون عملها في هذه الحالة مندرجا في مهمات ذات اختصاصات تنفيذية واضحة.
2- القضاء أو المحاكم:
بوصفها جهات معنية أيضا بصنع السياسات العامة، فإن كثيرا من أجهزة القضاء والمحاكم في النظم السياسية اليوم، تقوم بالأداء التنفيذي من خلال وحدات ودوائر إدارية، تتمتع بسلطة إجراء التحقيقات، والاستماع إلى الشهادات، وتطبيق اللوائح القانونية، سواء كانت تلك الوحدات على شكل هيئات مستقلة، أو كانت جزءا من الإدارات العامة العادية، كما أن الإجراءات القضائية موجهة بالأساس للكشف عن التلاعبات والانحرافات والتجاوزات الحاصلة في حقل الإدارة العامة وفي أجهزتها المعنية، وقيامها بالتعسف في تطبيق اللوائح والقوانين، والخروج عن ضوابطها في الأداء والتنفيذ، وهذا كله يعتبر تأثيرا مباشرا على الأداء الإداري، وتمثل وظيفة أو منصب الرقيب الحكومي أو الإداري أو المفوض البرلماني، أو المحقق العام أو رجل العدالة، الأسلوب البارز في قيام القانون بالسيطرة على الإدارة البيروقراطية الحكومية، وكشف انحرافاتها، وما يمكن أن تلحقه بالمواطنين والمجتمع من أذى.
وإلى جانب كل هذا، يبرز دور المحاكم وأجهزة القضاء، من خلال تفسير الأحكام والنصوص القانونية، والضوابط، ومراجعتها للقرارات الإدارية المرفوعة إليها من قبل جهاتها المعنية، بحيث يغدو رأي المحاكم والقضاء، إما متجاوبا أو معرقلا أو مبطلا لبعض السياسات الإدارية والقرارات التنفيذية، من خلال أحكام القضاء وقرارات المحاكم الصادرة نحوها.
3- مجموعات الضغط:
وهذه تمثل جهة قوية من الممثلين المؤثرين في عملية تنفيذ السياسة العامة، وقد تم الإشارة إلى أن مجموعات الضغط تمثل قوى خارجية تحاول الضغط على سياسات الإداري والمنفذ، ودفعه نحو اتخاذ سياسات تتفق مع مصالحها الشخصية، مثل الضغوط التي توجهها جماعات المصالح الصناعية إلى الأجهزة الإدارية والحكومية بطريقة تتلاءم مع الأهداف الصناعية لجماعاتها المصلحية.
هذا وإن عملية التنفيذ ممكن أن تشجع أصحاب المصالح والناخبين، على التدخل في القرارات الإدارية، بطريقة قد تدعم أهداف الأجهزة الإدارية أيضا، إن النظام السياسي المفتوح تحظى فيه الأجهزة الإدارية بالمصدر الحيوي للقوة، من خلال قدرتها على جذب دعم المجموعات الخارجية، لأن قوة جمهور الناخبين تشكل مصدرا كثير الأهمية عند الإداريين والإدارة، كما تشكل مصدر للنجاح عندهما.
إن تحالف القوى الضاغطة مع الإدارة يجعل العناصر القوية من الأفراد، مؤثرين في عملية التنفيذ وفي نشاطاتها ومخرجاتها، التي تكون محط اهتمام جماعات المصالح والضغط والبيئة الاجتماعية.
وتكون الجماعات الضاغطة والمصلحية مشتركة بالإدارة بصورة مباشرة، حينما يكون التمثيل لمصالح معينة محددا في مجلس إدارتها بموجب مقتضيات المصلحة واللوائح التنظيمية، مثل مجلس الإدارة الذي يضم المهنيين المجازين الذين يمثلون مصالح ذوي المهن بأكثر من المصلحة العامة.
4- وسائل الإعلام:
وتمثل قوى ذات مقدرة على ممارسة فاعلية هائلة إزاء عملية تنفيذ السياسة العامة والتأثير عليها، حيث يمكن لوسائل الإعلام المختلفة والصحافة خصوصا، أن تقوم بدور ايجابي يسهم في جعل المنفذين مطمئنين لأساليبهم العملية والتنفيذية بطريقة مختلفة مثل:
- بث التقارير المزيفة، ونشر المعلومات المضخمة حول انجازات البرامج الإدارية التي تجعل المنفذ يميل إلى غش العامة من الناس، أو الأعلى منه درجة ووظيفة.
- تستطيع الصحافة إعطاء إنذار مبكر حول الصعوبات التي تواجه البرامج الإدارية، بالشكل الذي يمنح فرصة للمنفذين لإجراء التعديلات والتحسينات وإخفاء الصعوبات.
- يمكن للصحافة أن تشيد بالإنجاز التشريعي، في سبيل الحصول على الدعم الكافي الذي يتطلبه نجاح البرامج التنفيذية.
ونتيجة لتأثير وسائل الإعلام في عملية تنفيذ السياسة العامة، يبحث العديد من المنفذين عن الجهد الواسع لأجل بناء تصور إعلامي قوي يعزز مهمتهم التنفيذية ويحافظ على استمرارية وجودها في البيئة والمجتمع، وبالمقابل فإن وسائل الإعلام والصحافة، يمكن أن تعمل على تعقد عملية تنفيذ السياسة العامة، وتحت ظروف معينة، يمكن أن تصبح مؤثرة على الأداء وبشكل مثير للاستفهام.
وعليه فإن للصحافة ووسائل الإعلام خدمة هامة فيما يختص بتنفيذ السياسة العامة، فهي تخدم كمراقب لتطبيق السياسة العامة، ولها مع ذلك تأثير مباشر على نتائج الجهود التنفيذية ومخرجاتها.
5- الوسطاء:
وهؤلاء مجموعة من الأشخاص أو الجماعات، الذين تناط بهم مسؤولية معينة، من قبل المسؤولين التنفيذيين، لغرض تنفيذ السياسات العامة، وقد يتمثل أولئك الوسطاء ببعض الموظفين المحليين، بوصفهم ممثلين رسميين في التنفيذ، ويخدمون ضمن هذه الصفة الرسمية في التنفيذ بطريقتهم الخاصة، يمكن أن تستفيد منهم الغدارة العامة أو الحكومة، في تنفيذ السياسة العامة.
وهذا يشير إلى الطريقة التي يمكن أن تكون فيها أساليب الوسيط ذات منفعة لعملية التنفيذ، من خلال سرعة تفويض السلطة من قبل الحكومة والغدارة العليا للوسطاء المحليين أو غيرهم، في سبيل تنفيذ البرامج اليومية للحكومة المركزية بالشكل الذي يجعل من الحكومة مرتبطة بدرجات متنوعة في تقرير الأوليات وتوضيح الأهداف، وتحديد طبيعة العملية التنفيذية، عبر القرارات التي تعمل ضمن المستويات المحلية أو المركزية، والسيطرة أو مراقبة البرامج والمشروعات ومن ثم تقويمها، وينبغي تنسيق عمل الوسطاء من خلال إقامة سلسلة اتصالات واضحة ولا يمكن أن تكون ذات آليات مشوشة، أو باعثة على قيام التعارض، كما أن توظيف الوسطاء من القطاع الخاص، قد يأتي للحصول على تنظيم أكثر انتشارا في التوزيع للخدمات الاجتماعية، من خلال التعاقد مع وسطاء لتقديم خدمات النقل أو الشحن مثلا، أو خدمات الرعاية الصحية في المتشفيات الخاصة، وغير ذلك ما يؤكد في النهاية أن عملية تنفيذ السياسات العامة، تكتسب وضعيتها الشمولية من خلال ارتباطها وتعقيداتها التي تشمل الأطر التنظيمية، على المستوى المركزي، وعلى المستوى المحلي، فضلا عن المستوى ضمن القطاع الخاص، وبالتالي التطور في آليات الإذعان ووسائل فرض الأوامر والالتزام بالنواحي التنفيذية للقرارات التشغيلية نحو الأهداف المطلوبة.
ومما تقد تتضح القدرة التأثيرية للجهات المعنية والمؤثرة في عملية تنفيذ السياسة العامة، وليس الأمر متوقفا عند تلك الجهات التي جرى التطرق لها، وإنما يتوقف عدد ونوع وطبيعة تلك الجهات، على حقيقة النظام السياسي، وعلى درجة المشاركة ونطاقها المعمول به في هذه السياسات العامة أو في غيرها، استنادا إلى متطلباتها التنفيذية وطبيعتها التخصصية، التي تفرض التزاما معينا وتوفيرا محددا للإمكانيات والوسائل والموارد، كما تتطلب ظرفا موقفيا محسوبا في أبعاده الزمانية والمكانية والبيئية والمجتمعية، إلى جانب الحفاظ على مقاصد وأهداف السياسة المعبرة عن توجهات وفلسفة النظام السياسي القائم في الدولة والمجتمع.