المحاضرة الرابعة: عملية تقويم السياسة العامة
إن السياسة العامة لا يمكن أن تفي بمتطلباتها بشكل تام أو فعلي، وسوف تكون بعيدتا عن مقاصدها،على مستوى الصنع أو على مستوى التنفيذ، حينما لا تتصاحب وتتواكب معها عملية هامة جدا، وهي عملية التقويم، التي تدعو إلى معرفة عملية وحقيقية وموضوعية بالانعكاسات السلبية أو الايجابية المترتبة عن السياسة العامة، وعن تنفيذها، وعن اثر مخرجاتها ومدى فاعليتها أو كفاءتها، في تحقيق الأهداف التي قصدتها، ذلك أن التقويم الحقيقي والفعال في السياسة العامة، يشكل مطلبا في إثبات الجدوى، كما يبعد ظاهرة العشوائية والتخبطية عن مضامينها ومقتضياتها.
وإلى جانب ذلك فمن الصحيح أن يتم التقويم ضمن جميع عمليات السياسة العامة، وألا يتوقف إجراء التقويم على نتائج العملية التنفيذية للسياسة العامة واضطلاع الأجهزة الإدارية، بهذه المهمة فقط، وإنما ينبغي أن يكون التقويم خلال النظر في القضايا والمشكلات الهامة، وفي أثناء صنع السياسة العامة أو البرامج، لأجل توفير المعلومات وحساب الحسابات المنطقية والعملية، حول نتائج المقترحات والآراء المطروحة ضمن هذا الجانب، بالشكل الذي يضمن اختيارا مناسبا وجيدا للسياسة العامة التي يمكن اعتمادها، ويدعو في الوقت ذاته إلى حسن توظيف النتائج المفيدة، لمحتويات علم السياسة والعلوم الاجتماعية والإدارية والسلوكية الأخرى ولعلوم اتخاذ وصناعة القرار على المشكلات التي يكون المسؤولون الحكوميون أو السياسيون بصدد مواجهتها وإيجاد الحلول الكفيلة لها، فضلا عن أن التقويم ينبغي أيضا أن يكون خلال عملية تنفيذ السياسة العامة بفعل المتابعة المستمرة وتعزيز استمراريتها، في توجيه الأداء الإنساني المؤسسي، وربط ذلك مع الغايات والأهداف، في إطار المخرجات الواجب إيجادها، ثم تستمر عملية التقويم فيما بعد، ليكون التركيز من خلالها منصبا على نواتج وأثار تلك المخرجات، عقب تمام التنفيذ ومعرفة انعكاسات ذلك كله على المجتمع والبيئة المعنية بالسياسة العامة، حيث يمكن عند ذلك التحقق من تقويم فاعلية السياسة العامة وتقدير نتائجها النهائية، والحكم على إمكانية الاستمرار في السياسة العامة أو برنامجها، أو التوقف فيها، أو التوسع أو الانكماش، وبحسب المحصلة التقديرية للنتائج.
ففي ظل هذه الدائرة التقويمية، ينبغي أن يكون تقويم السياسة العامة، ضمن حالة من الارتباطية أو الاندماجية المقصودة.
هذا وسواء كان التقويم مختصا بمستوى معين أو بعدة مستويات، في ضوء ما قد تنطوي عليه السياسة العامة، على صعيد المدخلات أو المخرجات أو النتائج والأثار المترتبة عنها، فإن التقويم يبقى تلك العملية الأساسية الباعثة في أية سياسة عامة جدية، والمقوضة لأية سياسة عامة قديمة، أو فاشلة، والمعززة لأية سياسة عامة ناجحة أو فاعلة، وكل هذه الخيارات ما هي في حقيقة الأمر، إلا خيارات واقعية تعبر عن جنس وطبيعة السياسة العامة، في إطار ما ينجم عنها من الآثار والمعطيات الفعلية.
وسوف تختص هذه المحاضرة ببحث عملية التقويم بأبعادها وأهدافها ووسائلها وتحولاتها.
أولا: التعريف بمفهوم التقويم:
لقد تعددت التعاريف لمفهوم التقويم، وتنوعت طروحاتها، في ضوء المرتكزات المعرفية والنظرية التي تقوم عليها عملية التقويم، أو في ضوء المنهجية العلمية للأدوات والمقاييس التي تتيحها أساليب البحوث العلمية المختصة بالسياسات العامة والعلوم الإدارية والاجتماعية.
عليه يمكن بيان أهم التعاريف للتقويم، حسبما يلي:
- التقويم: دراسة لغرض تقدير البرنامج القائم، في إطار قدرته على إكمال أو تحقيق أهدافه.
- التقويم: هو تحليل منتظم لمخرجات البرنامج، ويعنى بتحديد الفروقات في المعلومات القبلية والبعدية، وما يحصل في وضعية البرنامج، ومن ثم تفسيرها في ضوء استخدام المقاييس والمعايير الإحصائية اللازمة.
وقد حدد مفهوم التقويم من خلال علاقته بتحليل السياسة العامة، بأنه أي نشاط يستند على أساس علمي يهدف إلى تقييم العمليات المرتبطة بالسياسة العامة، وأثارها والبرامج الفعلية المصاحبة للتنفيذ.
وقد قدمت مجموعة أخرى من التعاريف مثل:
- إن تقويم السياسة العامة يعني تقدير لأثر هذه السياسة.
- إن تقويم السياسة العامة يعني تقدير الفاعلية أو التأثيرات الكلية للبرنامج الوطني في بلوغه لأهدافه، أو تقدير الفاعلية والتأثيرات المتعلقة ببرنامج أو أكثر في بلوغها لأهدافها.
- إن تقويم السياسة العامة، هو فحص أو بحث موضوعي ذو غاية تجريبية منتظمة لتلك التأثيرات التي تنتجها السياسات والبرامج العامة، من خلال الأهداف التي تنوي تحقيقها.
- وعرف التقويم بأنه: عملية منظمة تستهدف تقويم النشاطات الحكومية حتى تقدم معلومات متكاملة عن الآثار البعيدة والقريبة المدى للبرامج الحكومية.
ولمصطلح التقويم معاني عديدة دالة عليه، حيث أن التقويم يرتبط بتطبيق بعض المقاييس والقيم على نتائج السياسة العامة والبرامج المعبرة عنها، وبصورة أساسية، فإن مصطلح التقويم مرادف لمعاني كلمات أخرى مثل: التثمين والقياس والتقدير، والتي هي الأخرى جهود في تحليل السياسات العامة، وبأكثر خصوصية فإن معنى التقويم يشير إلى استخلاص المعلومات حول نتائج السياسة العامة وتقويمها بشكل واقعي وحقيقي.
من خلال هذه التعاريف إزاء مفهوم التقويم للسياسات العامة، يتضح أن التقويم عملية اختصاصية ذات طابع علمي وتطبيقي، تهدف إلى فحص البرامج والمشروعات والعمليات التنفيذية المرتبطة بالسياسة العامة، ودراسة نتائجها وما ترتب عنها من عوائد وفوائد، حيث قدم معهد الدراسات الحضرية الأمريكية رؤية تعريفية أكثر عملية حيال عملية تقويم برامج السياسة العامة، من خلال المحاور الثلاثة الآتية:
1- إن عملية التقويم تشتمل على تحديد فاعلية برنامج ما، قائم ومستمر، ثم التحقق من المدى الذي ينجز به هذا البرنامج أهدافه المطلوبة.
2- إن ذلك يتم من خلال الاعتماد على مبادئ البحث العلمي، ونماذجه في سبيل تمييز الآثار المباشرة للبرنامج عن الآثار الغير مباشرة، والتي قد تكون نتيجة لمؤثرات أخرى من غير البرامج المعني.
3- وفي ضوء ذلك، تسعى عملية التقويم نحو تحسين أداء البرامج عن طريق تعديل بعض عناصرها وتطوير أدائها.
وضمن هذا الإطار التلازمي في عملية تقويم السياسة العامة، فإن التطرق إلى عملية تقويم السياسة العامة، يعني مواجهة حقيقية للسؤال الذي يبرز بقوة في هذا الخصوص، وهو:
هل يستطيع الأعضاء المعنيون بالتقويم، اختبار السياسة العامة، على نحو تام، فيما يختص بميزاتها الموضوعة، بعيدا عن اعتبارات قوة وتأثير مسانديها أو المنتقصين من قدرتها؟
إذا كان الأمر كذلك، فإن مثل هذا التقويم الموضوعي للسياسات العامة، سوف يقدم مقياسا جديدا، يمكن بواسطته قياس أداء صانعي السياسات العامة، وأداء المنفذين لها، حيث إن عملية تقويم السياسة العامة، يمكن أن تعكس قياس أداء المتولين لصنع السياسات العامة، فضلا عمن يقومون بتنفيذها، وكلاهما مسؤولان عن أفعالهما، وبالتالي فعملية تقويم تلك العمليات تجيب عن السؤال الأكثر أهمية، فيما يتعلق بمدى اقتراب البرنامج الحكومي من تحقيق أهداف السياسة العامة التي جرى وضعها.
ثانيا: تقويم أثر السياسة العامة:
إن جوهر عملية تقويم السياسة العامة، بشكلها الحقيقي، لابد أن ينص ذلك الأثر الذي تحدثه تلك السياسة العامة، في ظروف العالم الحقيقي، وذلك من خلال معرفة الأبعاد السياسية أدناه:
1- أثر السياسة العامة على الموقف أو على الجماعة محط عناية السياسة العامة.
2- أثر السياسة العامة على المواقف أو على الجماعات الأخرى، غير المستهدفة أصلا من قبل السياسة العامة.
3- أثر السياسة العامة على الظروف الراهنة وكذلك الظروف المستقبلية.
4- أثر السياسة العامة، من حيث تكاليفها المباشرة لدعم البرنامج بالموارد التخصصية المطلوبة.
5- أثر السياسة العامة، من حيث التكاليف غير المباشرة المتضمنة فقدان الفرص في سبيل القيام بأعمال أخرى.
هذا وإن تلك الآثار الراهنة والمستقبلية بوصفها كلفا وفوائد، يجب أن تقاس في إطار التأثيرات الرمزية والملموسة، حيث إن أثر السياسة يختلف عن مخرجاتها، فعند القيام بتقدير أثر السياسة، لا يمكن ببساطة الاكتفاء بقياس نشاط الحكومة، فمثلا: رقم المبالغ المصروفة لكل عضو ضمن الجماعات المعنية باهتمام السياسة، لا يشكل مقياس لأثر السياسة على هذه الجماعة، وإنما يمكن اعتماده مقياسا للمخرجات الحكومية، في حين أن ما يجري على الجماعة من تحولات وتلقيهم لمستوى الخدمة والرفاهية والصحة والتعليم وغير ذلك هو الذي يجسم حقيقة الأثر الناجم عن مخرجات تلك السياسة العامة، إذ أن معرفة كم ارتفع الطير خلال طيرانه في الفضاء، وكم من الوقت استغرق طيرانه، يعتبر أولى من معرفة عدد المرات التي كان جناحه يرف فيها أثناء الطيران، نظرا لاستحالة ذلك.
وقد قدمت أمثلة عملية، لأجل لفت النظر والتحليل الموضوعي، لما يترتب عن المعرفة بتلك الأبعاد الخمس في تقويم أثر السياسة العامة، وحسبما يأتي:
- لابد للشريحة الجماهيرية أو المجتمعية محط عناية السياسة العامة، من أن يتم تعريفهم جيدا وأن يعرفوا بالبرنامج الموجه لخدمتهم، فمثلا في برنامج محاربة الفقر، هل الغرض منه رفع دخول شريحة الفقراء؟ أم زيادة فرص تشغيل البطالة وتغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم؟ وما هي الأولويات التي تضمن نجاح تقدير الآثار المحققة عن ذلك كله؟
- يجب مراعاة النظر، بأن السياسة العامة، قد تتخللها نتائج غير مقصودة إلى جانب نتائجها المقصودة، فبرنامج الإسكان يمكن أن يؤدي إلى حل مشكل السكن لدى الفقراء مثلا، لكنه قد يؤدي إلى قيام حالة من التمييز والفصل بينهم وبين الأغنياء.
- قد ينجم عن السياسة العامة أثار جانبية، مثل حالات التجارب والتفجيرات النووية، لتطوير السلاح الأمني، حيث أنه بالرغم من إيجابياته في الإطار التخصصي والعام، إلا أنها قد تكون ذات أثار خارجية سلبية على الأهالي القريبين من تلك التجارب، وربما على سلامة سكان الدولة أو المعمورة ككل.
- ينبغي معرفة، هل صممت السياسة العامة لأجل معالجة أو تطوير أوضاع حالية وقائمة أم مستقبلية؟ أي على المدى القصير؟ أم المدى الطويل؟ مثلا: برنامج مساعدة المتضررين من الفقراء والأطفال، هل يتضمن إعانتهم على أساس المعاش اليومي، أم مساعدتهم على تحسين قابليتهم وتأهيلهم لما يضمن انتفاعهم الدائم في الكسب والمعاش؟
- إن عددا من البرامج والسياسات العامة، يصعب احتساب تكاليفها بصورة مباشرة أو سهلة، مثل ما يختص بقضايا البيئة والتنمية والرعاية الاجتماعية، ما يعني أنها تكاليف غير مباشرة ويصعب حسابها.
- إن لبعض السياسات العامة أثار رمزية ملموسة، وهذه الأخرى من الصعب على المقوم أو المحلل في السياسة العامة، أن يتوصل إلى قياسها بشكل دقيق، خاصة أن المخرجات الرمزية قد لا تؤدي إلى إحداث تغييرات في الظروف الاجتماعية للناس، فمثلا: ليس هناك من يتحسن غذاؤه، حينما يتم الاحتفال بمناسبة وطنية، لأن المناسبة ذات بعد إيديولوجي وعاطفي مرتبط بالشعور وليس بالعطاء المادي.
إن تقويم أثر السياسة العامة، يمثل مستوى هاما عند التحليل من قبل المهتمين والباحثين في حقل السياسة العامة، حيث تتركز نقطة الانطلاق ضمن أية محاولة للتقويم، من خلال التساؤل فيما إذا كانت السياسة العامة محط الدراسة أو التقويم مفيدة، وهل تعمل أثارها أم لا؟ ومثل هذا التساؤل الرئيسي، في الغالب الأعم يدفع إلى تناول موضوعات ذات علاقة هامة بعملية التقويم لأثر السياسة العامة مثل: الفاعلية، الكفاءة، المساواة، العدالة، التي يمكن أن تحققها أية سياسة عامة أو برنامج محط التقويم، الذي يعتمد بدوره على عدد من المؤثرات البسيطة والواضحة على المستوى الكمي والنقدي والعددي، فضلا عن المؤثرات المعقدة المتمثلة بنتائج البرنامج أو السياسة العامة، وبتقديم نوعية الخدمة المطلوبة، وكيفية توصيلها للمستفيدين، ما يدلل على أن الافتراض الأساسي في عملية تقويم أثار البرنامج أو السياسة العامة، يعتمد بالأساس على أهداف البرنامج أو السياسة العامة ذاتها، أي الحكم على النتائج من خلال ما تم إعلانه من أهداف مسبقة، ويرتبط بأهداف السياسات العامة أو البرامج العامة الكثير من العمليات السياسية ذات الأبعاد المختلفة والمتفاوتة أحيانا، وقد تتسم بعض الأهداف فيها بالغموض أو العمومية الشديدة، لضمان اتفاق جميع الأطراف وكسب التأييد والدعم حولها.
وقد وضع مؤشر لتقويم السياسات العامة، من خلال توضيح عناصر أساسية، تتعلق بالمجال الواسع الذي تغطيه جميع عمليات السياسة العامة، صنعا وتنفيذا وأثارا، وهي:
1- إلى أي مدى تتعامل السياسات العامة مع المشكلات المجتمعية، ومع القواعد المنظمة لها بشكل شمولي مترابط؟
2- إلى أي مدى تسهم تلك السياسات العامة في التشجيع على تغيير السلوك الفردي والجماعي؟
3- إلى أي مدى تتمكن السياسات العامة من استخدام آليات إستراتيجية فاعلة وعقلانية، في سبيل تحقيق الالتزام التام بها؟
4- إلى أي مدى يمكن أن يسهم الالتزام بهذه السياسات العامة، في تعاظم الفرصة لتنفيذها؟
5- إلى أي مدى يمكن أن تسفر هذه السياسات العامة عن تحقيق النتائج المرجوة لها؟
إن كل ذلك، ومن خلال التأكيد على تقويم أثر السياسة العامة، يعتبر محاولة موضوعية، في سبيل تجنب الاعتقاد الشائع، بأنه بمجرد إصدار قرار معين وإنفاق المال المخصص، لابد أن يتحقق الغرض المطلوب من ذلك القرار، بمعنى أن المجتمع سيشعر بآثاره دون شك، غير أن الحقيقة أثبتت بطلان مثل هذا الاعتقاد، لأن الواقع الذي أكد الحاجة المستمرة للتقدير السليم للآثار الفعلية للسياسة العامة، هو الذي صار يطغى على سبل التحليل الموضوعي للسياسة العامة ولترسيخ عملية تقويمها بشكل فاعل وعملي.
ثالثا: الجهات التي تتولى عملية تقويم السياسات العامة:
لقد أشرنا فيما سبق، إلى أن السياسة العامة تتخذ أسلوبا ترابطيا في عمليتها وأنشطتها، وتتفاعل فيها المعطيات تفاعلا دائريا، ما يدفع إلى التأكيد مجددا:
- أن السياسة العامة قد تصنع كما تدار، وتدار كما تصنع.
- وأن السياسة العامة تتطلب ربطا لجميع عملياتها، أثناء التحويل.
- وبالتالي فإن التقويم للسياسة العامة، ينبغي أن يكون تقويما مستوعبا لها، في إطار شمولي كميا ونوعيا، ومتلازما فيها ضمن جميع مراحلها وعملياتها وأنشطتها.
وهذا كله يضع القارئ والمعني والباحث في السياسة العامة، أمام قناعة جازمة إزاء وحدة العلاقة والمهمة والمسؤولية، التي تجمع بين صانعي السياسة العامة ومنفذيها وكذلك مقوميها، حيث إنه، واستفادة من الرابطة الدائرية، يكون التقويم هو الأخر من مسؤولية الجهات التي تصنع السياسة العامة، وأيضا الجهات التي تقوم بتنفيذها، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، تبعا لنوع العلاقة التي تجمع بين الجهة وبين موضوع السياسة العامة.
وعليه، فيمكن بيان تلك الجهات الأساسية التي تتولى عملية تقويم السياسة العامة، من خلال ما يلي:
1- التقويم من قبل صانعي السياسة العامة:
حيث يتولى صانعو السياسة العامة، ومن خلال إشغالهم لمواقعهم الرسمية في الحكومة، تقويم السياسة العامة، إرضاء لناخبيهم كما في الأنظمة السياسية الديمقراطية، فيتوقعون انسياب التغذية الراجعة إليهم من مجموعات الدوائر الانتخابية، ويتعرفون على أرائهم إزاء برامج السياسة العامة القائمة، وفي مثل هذه الحالة، فإن شكل التقويم، يكون من خلال مراقبة صانعي السياسة العامة لمواقف الدوائر الانتخابية تجاه البرنامج، بحيث يصبح المعيار أو المقياس في تقويم أي برنامج، هو شيوعه أو عدم شيوعه بين جماعات الناخبين، على أساس القبول أو الرفض، ومثل هذه الطريقة في التقويم قد تخفق في التعامل مع السياسة العامة الأخرى غير المباشرة، التي تكون معطياتها غير مدركة أو ملموسة، وبالتالي فإن هذا الأسلوب، يجسد نمط الرقابة غير الرسمية، الذي من شأنه أن يدعم الحكومة كما يدعم رجال البرلمان، من خلال إمكانية خلق ما يعرف بالاتصال الانتخابي، الذي يجعل أعضاء البرلمان مهتمين بالمحافظة على وظائفهم من خلال إعادة الانتخاب في المستقبل.
وفضلا عن التغذية الراجعة من جهة الناخبين اتجاه صانعي السياسة العامة، فإن التقويم يتبلور أيضا، من خلال ما تنشره الصحف والأجهزة الإذاعية والمرئية، وشكاوى الموظفين والناس، وحتى الشائعات، وكذلك نتائج البحوث الاجتماعية، وجميعها تمثل تغذية راجعة غير منتظمة، تسهم في جعل صانعي السياسة العامة يكتسبون انطباعات أولية وتقويمية غير رسمية، حول نجاح أو فشل البرامج الحكومية، بالشكل الذي يدفع هؤلاء الصناع نحو التصرف اللازم في نهاية الأمر، استجابة لمجمل المعايير والمقاييس السياسية، التي يقتضيها الفعل المطلوب.
2- التقويم من قبل منفذي السياسة العامة:
حيث يتولى أيضا منفذو السياسة العامة التقويم، من منطلق أن سمعتهم أو مستقبلهم مرتبط بنجاح البرامج التي يقومون على إدارتها، والحرص على كسب التأييد لهم من قبل صانعي السياسة العامة ودعمهم للبرامج التنفيذية، وهذا الأسلوب في التقويم هو الأخر يعمل على تقويم صانعي السياسة من جهة، وعلى تقويم منفذيها من جهة أخرى، ويمثل في النهاية توجها سياسيا، حيث يقوم منفذو السياسة بمحاولة ضبط أو تشكيل المعلومات التي سيتلقاها صانعو السياسة العامة حول البرامج التنفيذية، عبر الوسائل الآتية:
أ- إرسال المعلومات الانتقائية التي تسلط الضوء الأكثر تفضيلا حول أدائهم.
ب- تفعيل برنامج الذين يؤيدون العمل في ضوء ادعاءات صانعي السياسة.
ج- استخدام موارد البرنامج، في سبيل توسيع قاعدة المجموعات المستفيدة، وكذلك الجماعات الأخرى العامة، في سبيل تحركهم للحصول على دعم أو تأييد إضافي لبرامج أخرى جديدة.
وفي إطار هذا التقويم، فإن الأسلوب المعتمد عند منفذي السياسة العامة يتركز حول كفاءة البرنامج التنفيذي وفاعليته، في إقناع صانعي السياسة العامة، بأنه برنامج قوي ومؤثر، كجزء من المحاباة السياسية، التي تتطلبها البرامج التنفيذية، التي تنطوي على فائدة للجماعات المعنية.
وقد يكون منفذو البرامج مهتمين بمنافذ متعددة لضمان التغذية الراجعة لهم، تتضمن الاتصالات مع صناع السياسة العامة، ومع المشاركين الآخرين بمحيط التنفيذ كالموظفين المحليين والجماعات المؤثرة والأفراد العاملين الفاعلين وغيرهم.
هذا ومما يلاحظ على الجهتين الصانعين والمنفذين للسياسة العامة، في التقويم، أن كليهما مهتمان بصيانة وتقوية مراكزهم وسلطاتهم وبرامجهم، وأنهما يميلان نحو التمسك بوجهة نظر دفاعية تجاه عملية التقويم، ويتبنون استراتيجيات مصممة لغرض تجنيبهم التوجهات الناقدة لأدائهم وانجازاتهم.
3- التقويم من قبل مقومين مختصين:
حيث تولى مجموعة من الأشخاص الذين يتقاضون دخلا أو جزءا من دخلهم، مقابل قيامهم بإجراء التقويم الرسمي والمنهجي للسياسة العامة، وفي الغالب يكون هؤلاء هم أنفسهم صانعي السياسة العامة أو من الذين يعملون بالأجهزة الإدارية العامة والمنظمات التنفيذية، عن طريق تكليفهم من قبل الجهات العليا بإجراء التقويم، في ضوء مهاراتهم وخبراتهم المعروفة، فعلى الرغم من انتشار الأبعاد السياسية في عملية التقويم، حيث لا يمكن أحيانا النظر إلى التقويم على أنه عملية غير سياسية، في ظل الظروف المختلفة والأوضاع المتعددة المحيطة بالسياسة العامة، إلا انه مع ذلك يمكن اعتبار عملية التقويم بوصفها نشاطا موضوعيا يمكن القيام به من قبل أناس متخصصين، يحتمل أن يكون لديهم قدر أقل من المراهنات السياسية في عملية التقويم، لكونهم يتعاملون بموضوعية ومنهجية فنية وتقنية أثناء توليهم لمسؤوليات التقويم للسياسة العامة، بالشكل الذي يؤدي إلى تقديم نتائج عملية صادقة ومشروعة، على الرغم من سعيهم أيضا نحو المحافظة على سمعتهم المهنية، والعمل على زيادة فرص الاعتماد عليهم في تقويم برامج السياسات العامة المستقبلية والأخرى اللاحقة ويتوجب على المقيمين وهم يسعون إلى تحقيق أهدافهم، تلبية عدد من المتطلبات الأساسية، والتي قد يكون بعضها مفروضا عليهم من قبل صانعي السياسة العامة أو منفذيها، كجزء من الاستجابة وتبادل المصلحة، وبما يوفر للمقومين دعما لغرض استجابة صانعي السياسة ومنفذيها لعملهم كمقومين تقنيين.
كما يجب إيلاء الاهتمام، إلى أن صانعي السياسة العامة ومنفذيها، سوف يؤيدون عمل المقومين التقنيين، حينما يدركون بأن المتطلبات الآتية قد تمت تلبيتها جيدا، وهي:
- عندما تكون أهداف صانعي السياسة، قد وضعت بدقة من قبل المقومين التقنيين.
- عندما يتم قياس درجة انجاز تلك الأهداف بشكل موضوعي.
- عندما تتم بلورة الاستنتاجات بأسلوب يدلل على وضوح أهداف صانعي السياسة، فيما يتعلق بانجازات البرامج.
وفي مثل هذه المتطلبات الأساسية، وفي سبيل تلبيتها بصورة مرضية، ينبغي على عملية التقويم التقني ما يأتي:
وفي مثل هذه المتطلبات الأساسية، وفي سبيل تلبيتها بصورة مرضية، ينبغي على عملية التقويم التقني ما يأتي:
- أن تكون أهداف السياسة العامة موضوعة بشكل واضح.
- أن تكون هذه الأهداف دقيقة بما يكفي لتكون قابلة للقياس.
- أن تكون الأنشطة التنفيذية والتطبيقية موجهة نحو تحقيق هذه الأهداف.
- أن تكون القياسات الموضوعة والمستخدمة ذات قدرة على ربط الأنشطة التنفيذية بالأهداف المطلوبة.
- أن تكون المعلومات الضرورية متوفرة في سبيل التأكيد على صحة هذه القياسات.
ومما تقدم يتضح أن التقويم التقني كثير المتطلبات، فهو يمثل مهمة نظامية مصممة لتقدير برامج معينة في إطار موضوعي، وإذا ما وجدت محاباة محتملة في عمل المقومين التقنيين، فإنها تعزى إلى كون المقومين في الحقيقة يتوجب عليهم القيام بحل مشكلتين محتملتين هما:
الأولى: أنه يتوجب عليهم أن يكونوا قادرين على تطوير القدرات والكفاءات المنهجية القابلة للتطوير، ليتسنى لهم القيام بتقويم البرامج بوسائل كمية قابلة للقياس الموضوعي.
الثانية: أنه يتوجب عليهم أن يكونوا قادرين على مقاومة الضغط السياسي من قبل صانعي السياسة العامة ومنفذيها، والذين من المحتمل جدا أن يقوموا بمحاولة التأثير على عملهم التقويمي.
رابعا: أنواع التقويم في السياسات العامة:
تتعدد اتجاهات ونوعيات التقويم في السياسات العامة، في ضوء اختلاف الأهداف بالنسبة للعملية التقويمية، وتبعا لدرجة التركيز في عملياتها وفي أنشطتها، حيث يمكن أن تركز عملية التقويم على أهداف البرامج أو على تكاليفه أو على نتائجه، كما يمكن أن تركز عملية التقويم على الطابع الإداري ومستوياته، وكذلك على العملية التقويمية ذاتها، وفيما يأتي نوضح أهم أنواع التقويم في السياسة العامة.
1- التقويم المتقدم أو تقويم السياسة العامة:
وهذا النوع هو الذي يعنى بدراسة الجدوى قبل اتخاذ القرار، ويمثل منطلقا أوليا في سبيل إعطاء الضوء الأخضر للمباشرة ببدء العمل بالبرامج الجديدة، ويمثل أيضا هذا التقويم الإعداد للسياسة العامة والأداة الارتكازية في التخطيط اللازم لها، لغرض الحصول على المعلومات اللازمة ضمن مستوى صنع السياسة العامة.
2- التقويم الاستراتيجي:
وهو النوع الأدنى من سابقه في عملية التقويم، والذي يمكن اعتماده في سبيل تحديد فاعلية التنفيذ، ومساعدة مدراء البرامج لإدخال التعديلات والتحسينات الضرورية لتنفيذ البرامج، وردم الفجوة بين الأداء والتخطيط وربط النظرية بالتطبيق، وإجراء التقويمات الشاملة للبرنامج في ضوء مؤثرات الكفاءة والفاعلية.
3- تقويم عمليات تنفيذ البرامج:
وهو النوع الذي يمكن أن يتم بصورة مستقلة أو مشتركة مع غيره من أنواع التقويم الأخرى، ويتركز على تحليل العمليات التنفيذية للبرامج من حيث الإستراتيجية، وعمليات التشغيل، والتكاليف، والتداخلات بين المستفيدين من البرنامج ومنفذي هذا البرنامج، بما يضمن تطوير أو تحسين تلك العمليات.
وفي حال اشتراك هذا النوع مع غيره من أنواع التقويم الأخرى، وبالأخص التقويم المتعلق بالكفاءة والفعالية، فإنه سيعتمد لأجل تحقيق هدفين مهمين هما:
- لمساعدة المقوم في تحديد خطة لتصميم التقويم للفاعلية والكفاءة.
- لمساعدة المقوم في توضيح النتائج التي توصل إليها تقويم الفاعلية والكفاءة.
وأن هذا النوع من التقويم يهتم كثيرا بتقويم المدخلات المادية والبشرية التي يحتاج إليها البرنامج التنفيذي.
4- تقويم الفاعلية:
وهذا النوع الذي يتضمن التقويم في سبيل معرفة قدرة البرنامج على تحقيقه لأهدافه الأساسية التي أقيم من أجلها، حيث يمكن تحديد فاعلية برنامج السياسة العامة، من خلال الأهداف المتحققة وما يترتب عنها من المنافع والفوائد.
5- تقويم الكفاءة:
وهو النوع الذي يعنى بتقويم الدرجة التي تحافظ فيها أية سياسة عامة أو برنامج، على أقل نفقة ممكنة، كمؤشر اقتصادي يتفق ومنطق تقديم الخدمات العامة التي تضطلع بها برامج السياسات العامة الحكومية في الوسط الاجتماعي.
6- تقويم النتائج:
وهو النوع الذي يعنى بقياس النتائج وأثار البرنامج السلبية أو الايجابية، على مجموعة المستفيدين من ذلك البرنامج، وكشف المؤثرات والمسببات المباشرة وغير المباشرة المرتبطة بتلك الآثار والنتائج الناجمة عن البرنامج.