المحاضرة الخامسة: التنمية المستدامة
(المحاضرة الخامسة)

المحاضرة الخامسة: التنمية المستدامة

نوضح من خلال هذه المحاضرة، أحد أهم المفاهيم الاقتصادية الحديثة، وهو التنمية المستدامة، حيث نستعرض السياق التاريخي للتنمية المستدامة، و كذا مفهومها، وأهداف التنمية المستدامة، وكذا أبعادها.

أولا: السياق التاريخي للتنمية المستدامة:

يعتبر مفهوم التنمية المستدامة من أهم الأفكار التنموية الحديثة وقبل الحديث عن تعريف التنمية المستدامة لابد من استعراض السياق التاريخي لهذا المفهوم.

إن مفهوم التنمية المستدامة، برز من خلال مؤتمر ستوكهولم (السويد) سنة 1972 حول البيئة الإنسانية، الذي نظمته الأمم المتحدة، بمثابة خطوة نحو توجيه الاهتمام العالمي بالبيئة. ولقد ناقش هذا المؤتمر للمرّة الأولى القضايا البيئية وعلاقاتها بواقع الفقر وغياب التنمية في العالم. وتم الإعلان عن أن الفقر وغياب التنمية هما أشد أعداء البيئة، من ناحية أخرى انتقد مؤتمر ستوكهولم الدول والحكومات التي لازالت تتجاهل البيئة عند التخطيط للتنمية.

وصدرت عنه وثيقة دولية هي:

«Rapport of the united nation conbern on the Human environment»

وتتضمن هذه الوثيقة مبادئ العلاقات بين الدول، والتوصيات التي تدعو كافة الحكومات والمنظمات الدولية لاتخاذ تدابير من أجل حماية البيئة وإنقاذ البشرية من الكوارث البيئية والعمل على تحسينها.

وفي يوم الغد لهذه السنة أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP   (United Nations Environment Programme)  تتمثل وظائفه الرئيسية في تقرير التعاون بين الدول في مجال البيئة ومتابعة البرامج البيئية، وجعل الأنظمة والتدابير البيئية الوطنية والدولية في الدول المتخلفة تحت المراجعة المستمرة، فضلا عن تمويل تلك البرامج ورسم الخطط والسياسات التي ستلزمها ذلك

ظلت التنمية المستدامة خلال عقد السبعينيات غامضة ومقتصرة على الندوات العلمية المغلقة التي كانت تحاول أن تجد تعريفا مقبولا لهذا المفهوم.كان الجميع يتساءل إن كان بإمكان تحقيق تنمية منسجمة مع متطلبات البيئة، وإن كان بإمكان التخطيط لتنمية اقتصادية غير ضارة بالبيئة ولا تضع في الوقت نفسه قيودا غير مقبولة على طموحات الإنسان المشروعة لتحقيق التقدم والرقي والنمو الاجتماعي والاقتصادي، وإن كان بالإمكان أن تكون التنمية مستمرة ومتواصلة ولا نهائية.

في سنة 1982 وضع برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقريرا عن حالة البيئة العالمية وكانت أهمية التقرير انه مبني على وثائق علمية وبيانات إحصائية أكدت الخطر المحيط بالعالم، وفي 28 أكتوبر 1982 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، الميثاق العالمي للطبيعة، الهدف منه توجيه وتقويم أي نشاط بشري من شانه التأثير على الطبيعة، ويجب الأخذ بعين الاعتبار النظام الطبيعي عند وضع الخطط التنموية.

وبعد عشر سنوات تعود لجنة منظمة الأمم المتحدة تحت رئاسة بريتلاند قروهارلم  (Brundtlan Gro Harlem)  وزيرة  النرويج للبيئة التي أصبحت في سنة 1990 الوزير الأول، أخذ البعض يطرح التنمية المستدامة كنموذج تنموي بديل، في ذلك الصدد وضع إستراتيجية تتخيل إمكانية وجود تنمية تجعل الانسجام ما بين النمو الاقتصادي، حماية المحيط والأخذ بالاعتبار للمتطلبات الاجتماعية.

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا سنة 1987 هو"المنظور البيئي في سنة 2000  وما بعدها"، هذا القرار يهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة بيئيا بوصف ذلك هدفا عاما منشود للمجتمع الدولي. وفي هذا التقرير وللمرة الأولى وضع تعريف محدد للتنمية المستدامة. كذلك وفي التقرير النهائي للجنة، قامت قروهارلم بريتلاند بإصدار كتاب بعنوان" مستقبلنا المشترك" الذي وجد أكبر سند لمفهوم التنمية المستدامة. بحيث أن هذا الكتاب هو الأول من نوعه الذي يعلن أن التنمية المستدامة هي قضية أخلاقية وإنسانية بقدر ما هي قضية تنموية وبيئية، وهي قضية مصيرية ومستقبلية بقدر ما هي قضية تتطلب اهتمام الحاضر أفراد أو مؤسسات وحكومات.

إن الكتاب يتوجه بتوصياته إلى الأفراد والمؤسسات الحاكمة في الدول كافة ويدعوهم جميعا، إلى القيام بحملات تربوية واسعة لوضع العالم على مسار التنمية المستدامة، لكن الكتاب يتوجه بشكل خاص إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ويدعوهم إلى عقد مؤتمر دولي يجمع كل زعماء العالم للنظر في قضايا البيئة والتنمية.

وبعد خمس سنوات وبالفعل عقد هذا المؤتمر في مدينة ريوديجانيرو بالبرازيل في 14 جوان 1992  الذي شكل أكبر حشد عالمي حول البيئة والتنمية تحت إشراف الأمم المحتدة، وعرف هذا المؤتمر باسم "قمة الأرض" تدليلا على أهميته العالمية وكان هدف المؤتمر هو وضع أسس بيئية عالمية للتعاون بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة من منطلق المصالح المشتركة لحماية مستقبل الأرض، وقد نقلت قمة الأرض الوعي البيئي العالمي من مرحلة التركيز على الظواهر البيئية إلى مرحلة البحث عن العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المسؤولة عن خلق الأزمات البيئية واستمرار التلوث والاستنزاف المتزايد الذي تتعرض له البيئة.

كما تم في شهر ديسمبر 1997 إقرار بروتوكول "كيوتو" الذي يهدف إلى الحدّ من انبعاث الغازات الدفيئة والتحكم في كفاءة استخدام الطاقة في القطاعات الاقتصادية المختلفة وزيادة استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة.

ومن جانب أخر انعقد في أفريل 2002 مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة في جوهانزبورغ (جنوب إفريقيا) بهدف التأكيد على الالتزام الدولي بتحقيق التنمية المستدامة.

إذا فالتطور من فكرة بيئة الإنسان عام 1972 إلى فكرة البيئة والتنمية عام 1992 م إلى فكرة التنمية المستدامة عام 2002 يرتكز على تقدم ووعي ناضجين، ذلك أن العلاقة بين الإنسان والبيئة لا تقتصر على أثار حالة البيئة على صحة الإنسان، إنما للعلاقة وجه أخر هو: إن البيئة هي خزان الموارد التي يحولها الإنسان بجهده وبما حصّله من المعارف العلمية والوسائل التقنية إلى ثروات.

ثانيا: مفهوم التنمية المستدامة:

وردت الكثير من المفاهيم والتعاريف للتنمية المستدامة، فهناك من يعرفها على أنها:

"التنمية المستدامة هي تنمية تستجيب لحاجات الأجيال الراهنة دون أن تعرض للخطر قدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها هي الأخرى".

"هي محاولة الحد من التعارض الذي يؤدي إلى تدهور البيئة عن طريق إيجاد وسيلة لإحداث تكامل بين البيئة والاقتصاد".

أما اللجنة العالمية للتنمية المستدامة فتعرفها كما يلي: "هي تلبية حاجات الحاضر دون أن تؤدي إلى تدمير قدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة"

مما سبق يمكن القول، التنمية المستدامة هي التنمية الحقيقية ذات القدرة على الاستمرار والتواصل من منظور استخدامها للموارد الطبيعية والتي يمكن أن تحدث من خلال إستراتيجية تتخذ التوازن البيئي كمحور ضابط لها، وفيما يلي سنذكر بعض السمات الأساسية للتنمية المستدامة:

1- التنمية المستدامة تختلف عن التنمية في كونها اشد تداخلا وأكثر تعقيدا وخاصة فيما يتعلق بما هو طبيعي وما هو اجتماعي في التنمية

2- التنمية المستدامة تتوجه أساسا لتلبية احتياجات أكثر الطبقات فقرا أي أن التنمية تسعى للحد من الفقر العالمي

3- التنمية المستدامة تحرص على تطوير الجوانب الثقافية والإبقاء على الحضارة الخاصة بكل مجتمع

4- عناصر التنمية المستدامة لا يمكن فصل بعضها عن بعض لشدة تداخل الأبعاد والعناصر الكمية والنوعية لها.

5- التنمية المستدامة عملية مجتمعة، يجب أن تساهم فيها كل الفئات والقطاعات والجماعات، ولا يجوز اعتمادها على فئة قليلة أو مورد واحد

6- التنمية المستدامة عملية واعية، وهذا يعني انها ليست عملية عشوائية، وإنما عملية محددة الغايات، ذات إستراتيجية طويلة المدى وأهداف مرحلية ومخططات وبرامج

7- بناء قاعدة وإيجاد طاقة إنتاجية ذاتية، وهذا يتطلب من عملية التنمية المستدامة أن تبني قاعدة إنتاجية صلبة وطاقة مجتمعة متجددة لم تكن موجودة قبلا، وان تكون مرتكزات هذا البناء محلية ذاتية، متنوعة، متشابكة ومتكاملة، قادرة على التكيف مع التغيّرات في ترتيب أهمية العناصر المكونة لها، كما يتوفر لهذه القاعدة التنظيم الاجتماعي السليم، الموارد البشرية المدربة، القدرة التقنية والتراكم الرأسمالي الكافي.

ثالثا: أهداف التنمية المستدامة:

مما سبق، نستنتج أن أهم التحديات التي تواجهها التنمية المستدامة هي القضاء على الفقر كما تسعى إلى تحقيق العديد من الأهداف دون الإفراط في الاعتماد على الموارد الطبيعية.

1- المياه: تهدف الاستدامة الاقتصادية إلى ضمان إمداد كاف من المياه ورفع كفاءة استخدام المياه في التنمية الزراعية والصناعية والحضرية والريفية. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى تامين الحصول على المياه في المنطقة الكافية للاستعمال المنزلي والزراعة الصغيرة والأغلبية الفقيرة. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الحماية الكافية للمستجمعات المائية والمياه الجوفية وموارد المياه العذبة.

2- الغذاء: تهدف الاستدامة الاقتصادية فيه إلى رفع الإنتاجية الزراعية والإنتاج من اجل تحقيق الأمن الغذائي الإقليمي والتصديري. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى تحسين الإنتاجية وأرباح الزراعة الصغيرة وضمان الأمن الغذائي المنزلي.

 وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستخدام المستدام والحفاظ على الأراضي والغابات والمياه والحياة البرية والأسماك وموارد المياه.

3- الصحة: تهدف الاستدامة الاقتصادية فيها إلى زيادة الإنتاجية من خلال الرعاية الصحية والوقاية وتحسين الصحة والأمان في أماكن العمل. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى فرض معايير للهواء والمياه والضوضاء لحماية صحة البشر وضمان الرعاية الصحية الأولية للأغلبية الفقيرة. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الحماية الكافية للموارد البيولوجية والأنظمة الايكولوجية والأنظمة الداعمة للصحة.

4- السكن والخدمات: تهدف الاستدامة الاقتصادية فيها إلى ضمان الإمداد الكافي والاستعمال الكفء لموارد البناء ونظم المواصلات. وتهدف الاستدامة الاجتماعية لضمان الحصول السكن المناسب بالسعر المناسب بالإضافة إلى الصرف الصحي والمواصلات إلى الطبقة الفقيرة. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستخدام المستدام أو المثالي  للأراضي والغابات والطاقة والموارد المعدنية.

5- الدخول والتشغيل: تهدف الاستدامة الاقتصادية إلى زيادة القدرة الشرائية للأفراد ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى خلق الوظائف وفرص العمل والتقليل من مخاطر العمل. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستعمال المستدام للموارد الطبيعية الضرورية للنمو الاقتصادي في القطاعين العمومي والخاص.

رابعا: أبعاد التنمية المستدامة:

مما سبق يتضح أن للتنمية المستدامة ثلاث أبعاد متكاملة ومترابطة والتي يجب التركيز عليها جميعها بنفس المستوى والأهمية، فتشمل الجانب البيئي، الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي، كما يوضحها الشكل التالي:

1- البعد البيئي: يتمثل في الحفاظ على الموارد الطبيعية والاستخدام الأمثل لها على أساس مستديم والتنبؤ لها بغرض الاحتياط والوقاية، ويتمحور البعد البيئي حول مجموعة من العناصر نذكر منها:

- الطاقة

- التنوع البيولوجي

- القدرة على التكيف

- الإنتاجية البيولوجية

وتتمثل أهم الاهتمامات البيئية في ظاهرة ارتفاع درجة حرارة المناخ، اختلال طبقة الأوزون، الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية والعديد من المشاكل المتعلقة بتلوث الهواء

2- البعد الاقتصادي: يتمحور البعد الاقتصادي للتنمية المستديمة حول الانعكاسات الراهنة والمستقبلية للاقتصاد على البيئة، إذ يطرح مسألة اختيار وتمويل وتحسين التقنيات الصناعية في مجال توظيف الموارد الطبيعية. وتمثل العناصر التالية البعد الاقتصادي:

- النمو الاقتصادي المستديم

- العدالة الاقتصادية

- إشباع الحاجات الأساسية

وتوفق التنمية المستدامة بين البعدين السابقين من خلال ضرورة المحافظة على الطبيعة من جهة وضرورة تقدير نتائج الأعمال البشرية على الطبيعة من جهة أخرى.

3- البعد الاجتماعي: تتميز التنمية المستديمة بهذا البعد الذي يمثل البعد الإنساني، اذ تجعل من النمو وسيلة للالتحام الاجتماعي وضرورة اختيار الإنصاف بين الأجيال. اذ يتوجب على الأجيال الراهنة القيام باختيارات النمو وفقا لرغباتها ورغبات الأجيال القادمة، وهكذا فان كل من البعد البيئي والاقتصادي يرتبط بشكل كبير بالبعد الاجتماعي، ونذكر فيما يلي أهم عناصر البعد الاجتماعي:

- المساواة في التوزيع

- المشاركة الشعبية

- التنوع الثقافي

- الإنصاف والعدل في اختيارات النمو.